لدغة حب
نزل الرقم عليه كالصاعقة
لعله كان يدري أو يحزر الأمر، وإلا لما كان قد أجل طرح السؤال الذي تلقى عليه تلك الإجابة
يا إلهي، هل الفتاة التي في سريره الآن، مراهقة تمرُّ على العروق فتوقظها
الآن يكتشف أن في فراشه فراشة في نصف عمره
هذه اللحظات الكاشفة تأسرنا إلى الأبد
التقاها في القاعة الكبيرة وقت الاستراحة. وقف متأنقًا كعادته يحادث أخرى بهدوئه غير المتكلف، حين وجدها واقفة أمامه بابتسامة واسعة وعينين تلقيان ما هو أكثر من التحية
نظر لها في البداية بوجه محايد كقِط، قبل أن تذيبَ بابتسامة ساطعة كل الشمع حول جسده
قوامُها يشبه ساعة الرمل، إذ ينسكبُ صدرها بتماسك فوق خصر دقيق، سرعان ما يتفرع عنه ردفان دائريان
نصبَ فمُها الذي يضحك للندى وجسدُها الغامض حوله شباكا بدائية بخيوط من عذوبة
وكأي راغب إذا عَرَضت طريدة، فكر في أن ملامستها تنسي الهرم، وأن عليه أن يقاوم برد برلين بالمزيد من الشقراوات
تستفسر منه عن تفاصيل وردت في كلمته أمام المؤتمر، وكان كل شيء فيها يعربد عشقا أمام افتراعات عينيه
على مائدة العشاء في المطعم اليوناني، تأسره موسيقى ميكيس ثيودوراكيس، ويضجره لغط الرفاق حول مسابقة الأغنية الأوروبية "يوروفيجن"، والسكارى الذين عجزوا عن الفصل بين الضحك والدموع، والنادل المتزلف الذي يغمز له بطرف عينه حين يراها تقرب وجهها من وجهه تحت ضوء الشموع
فراشة تقترب من ضياء رجل، وكأس نبيذ تراوغ شفتين عاريتين إلا من الحب
قالت له وهي تتأمله: "عيناك الساحليتان، هما كل وجهك"، قبل أن تردف بعبث مستحب: "خفتُ ألا تنتبه لي وسط زحام المعجبات الذي قد يوفر لك الخبز اليومي من الثناء المحبب للذات"
تجاهلَ خبث جملتها الأخيرة بعد أن احتكّتْ به في دلال مُخلّفَة عبيرها
وفي الأحاديث، تقود الشاعرية إلى الشعر: من إنسانية سعدي الشيرازي إلى جرأة آن سكستون التي كان فمها يزهرُ كجرح
ينتبه إلى أن الوزير التركي اعتذر بلباقة عن عدم تلبية دعوة العشاء في المطعم اليوناني. ارتباطات أخرى، أم أنها السياسة تفرض حساباتها حتى في المطاعم
يسكن الجميع في المطعم حين تصدح لينا ماير-لاندروت، المغنية الألمانية ذات التسعة عشر ربيعا في مسابقة "يوروفيجن". غناؤها الصافي مثل قدر محتوم في جغرافيا الأوتار
تغمر المكان "حمى لينا"، التي تجتاح ألمانيا بحثًا عن لقب ضائع منذ 28 عاما
يسيران في الشوارع الطويلة المتكبرة، حيث الأحجارُ المتراصفة المطلية بسوادٍ وبياض يكسوها لونٌ غامض في قلب الليل
تلهو نسمة هواء بشعرها الناعم، وترِّفُ تحت قميصها في عبث يقيم الليل ويقعده
مشيُها طيران على اتصال طفيف بالأرض، وهي تخطر في خيلاء مُهْرَة عربية
يسيران في شوارع بلا نهايات، وسط أشجار عارية إلا من الشبق، يرصدان نجمة هربت من أقاصي الليل، ويطالعان الألعاب النارية التي تضيء سماء برلين احتفالا بفوز لينا باللقب الغنائي الأوروبي
هذا يوم المراهقات بامتياز
ابتسمت فيرونيكا قبل أن تقول له: "أنغيلا ميركل وجه ألمانيا؟ هراء.. لينا هي وجه ألمانيا". وأضافت: "لقد فزنا في أوسلو.. الآن كل شيء ممكن على جبهة كرة القدم في جوهانسبرغ"
بدا رذاذ المطر خفيفا كقبلة عابرة، ولم ينتبه إليه إلا حين انفصلت عنه هالته وسقطت على وحل الرصيف
يراقبان البيوت والنوافذ والأزهار والنافورة المضيئة التي تطاولُ سماء تكاد تفلتُ منها
عند المنعطف الذي يؤدي إلى الفندق الذي ينزل فيه، أجابها: "ليس هناك ما هو أفضل من الموسيقى لربط صلة لا تنفصم بين كائنين. الموسيقى ذات جوهر أسمى من الحياة، وربما أسمى من الموت"
في الغرفة التي تقع في الطابق التاسع عشر، يراقبان من شرفة تغطي أساها بالحصى، وقع الاحتفال بالنصر الموسيقي. تشير بإصبعها إلى السماء، وتكاد تقسم أن القمر - الذي كان بدر التمام- يبدو على هيئة وجه مبتسم، فيوافقها الرأي إذ يبدو ضوء القمر غجريا ومغويا كأنه سوناتة مفقودة لبيتهوفن، وكانت عيناها تعيدان كل الحكايات إلى فتنة الألق
يُقبلها، فيتسرب ريقُها إلى دمه، ويتبعثر شعرُها على أشجار روحه مثل أيام هادرة
الشفاه التي تنضغط ثم تنزلق في غياهب التمني، لا تطيق لحظة فراق
تسائله وهي دائخة: "تلك قبلةٌ أم قنبلة؟!"
يصمت.. ويداه تتكلمان
وفي المشاعر المتدفقة كنهر، فإن خير العشق عاجله
تَتَبَّعُ قِنديلَه في باطن كَفّها، ويلمس نهديها الشقيين إذ يتحرران من صرامة المشد، وحين يلثمها تفوح منها رائحة النبيذ الأحمر
قطرة ضوء انزلقت في فراغ الأسرار بين الثديين، فيما طارت فراشات ثوبها لتحط في غابة شعر صدره
ينشغل بصدرها العاجي العامر بحلمتيه الوقحتين، وتشده هي إلى هاوية لذتها السحيقة
يعضُ برفق تلك الدائرة القانية التي تخفيها عن أعين الفضوليين، فتبدو سعيدة وعنيدة كجواد جامح يجري وسط لظى جسد يبوح بما لا يباح
جسدُها جمرة لم تعد تميّز بين وقع قلبه ووقع رائحتها
تعتليه بغنج لتُسكنه جنانها وجنونها
تهتز بإيقاع منتظم، وهو يحملق في السقف، قبل أن ينظر في اتجاه النافذة استجداء لبعض الهواء
الهواء له رائحة مسك الليل
وهو يصطاد الخفة الهاربة
نهدُها الأيسر يباغته فينطلق كأرنب البراري، فيما بطنُها الضامر يهربُ من كتب البلاغة
وحدهما عيناه كانتا تتشربان المشهد.. ويداه تتكلمان
تهدج صوتها وهي تقول: أعطني نهدين بلمستك، امنحني شفتين بقبلتك
يقول لها جسده: هذا التأني ينضج حبات الفاكهة في حقولك.. دعي اللمسات تحكي، وتنساب رويدا رويدا لتروي هذه الأرض
خائنة الأعين تكشف خبايانا: الرغبة المتقدة، الهوى الهش، الحب القصي، والجسد الذي تخلى طوعا عن لعبة التمنع
حرة دون انفصام، إلا حين تحتضنه فتشهق به منه إليه
يراقبُ كلَّ لحظة تغيُّرها في عوالمِ ضوئِه، كأن قيامتَها قد حانت
يحصي بتمهل شديد كل الشامات في جسمها
واحدة نافرة أعلى العنق
وواحدة قبل النهد الأيمن بقليل
وواحدة في بطن الساق
وأخرى تنام في مكان ما بين الحدائق والحرائق
يمتص رحيق المياسم، يعاقر الكرز والعسل، خفيفا كرغوة، يغزِلُ بأصابعه أجنحة من الماء
يلمس الوردة التي اختبأت في أوراقها، ويُلهب ظهر المساء
يدرك ببراعة ما تبوح به كل استجابة وامضة، وهو ينقش اسمه فوق سديم سُرتها
يبذر حنطة العشاق في حقول الشقرة، يهصرها في جنون الشبق، فتتمدد على مساحات اللمس، مغمضة عينيها لتتذوق الواقع
جسدها الأبيض اللدن به شوق للخدوش، وفواكه الجسد كلها لذيذة
امرأة تشبه كعك البراوني الساخن الذي تسيل من قمته طبقة آيس كريم
تخبىء في كل زاوية كنزا، وتحت كل زهرة رحيقا
كان يفترسها بشراهة لا تشي بشبع أو ارتواء قريب، وهي تنجلي وتتجلى
جسده ناي يحلم بالمرج، إذ ينشد مع امرىء القيس:
مكرّ
مفرّ
مقبل
مدبر
معا
ترتخي وتتردد أنّاَتُها داخله كالصدى، فيما لهاثها الوحشي يتصاعد من عمق بعيد
ترهقه هجمة العري الوفير، فيتسلل إلى رحمها الدافىء
ساخ اللحم في اللحم، واستغرقت الرغبة في الرغبة
تخلَّلها مثل تروس آلة الزمن، داخلاً في فراغاتها، حتى امتلأت به
عناق يُذيب الأغطية
تستعجلُ غيبوبة اللذة ثم تنعم باستبطائها، إلى أن تهتزَ حد الرعشة وتعصف كبركان فائر
حين تكون داخل امرأة، تعرف سر الحياة.. وحين تتساقط دموع العنب، تتذوق طعم اللذة
الماء لا يتحدى الجاذبية
أما الجاذبية فهي تتحدى كل سوائل الدنيا
كلَّما انثنى على ظلِّها ظلُّه، تُمطر بسخاء عاشقة
يقفزان من لذة إلى أخرى، من ذروة إلى أخرى
ليلة واحدة، تمر ببطء اختاراه، لكنها تسبح بثقة إلى القلب
روحان في ليل كثيف، ورغبات تركل النعاسَ بعيدًا، حتى ينطفىء الكون
والليل نهار مُتعَب، يعلمنا لعنة التوهج ونعمة الانطفاء
قالت له: أنت أول رجل لي من خارج عالمي
وكان عالمها هو بلدها النائم على أنهار
تسأله: من أنت؟
يجيبها متفاديا النظرة المباشرة إلى وجهها: لست سوى طائر نبتت له في المنفى أجنحة، خانته البلاد التي أحبَّ بكلّ الجنون، فاستعار منطق سيزيف، ليواصل التفوق في امتحانات اليأس
تعيد الكَرَّة: هل لك حبيبة؟
يرد بصوت خفيض كأنه سفينة تمشي بأطراف أصابعها على الماء: ألف عاشقة تغذّتْ من دمي، وحين لا أجدهن أحرثُ بياض الورق. لا تُوحِشُ الوحدةُ أصحابَها
جف ريقُ الأسئلة
تُقبله بنهم، قبل أن تنزلق بين الأغطية، عارية مُترعة بالشبع
تضبط ساعة هاتفها الجوال، ثم تذوب في غابات أحلامها المتوهجة
أما هو فجمع جسده إليه وطوى الرغبة التي فردت أذرعها
كانت كل الأشياء مرمية على الأرض، وعلى السرير جسدان عاريان
عندما أطل قرصان النهار فاجأته بالقول: لكم هو جميلٌ وشاعريّ سريرك
لكنه ليس سوى سرير في غرفة فندق سيغادره هذا المساء
بعد الحمام السريع الدافىء، يجد السرير عاد مرتبا:
- "سوَّيته؛ لأزيل آثار المعركة"
- "كانت معركة جميلة، استغاث فيها الجلد بالجلد، لكنها بدون جيوش"
يلمحها وهي تمشط شعرها المبتل، فيرتبك ُ المشط
يتضاحكان إذ يكتشفان أنه ترك "لدغة حب" أعلى العنق
فضيحة موشومة بأزرق عابر للجنون، خبّأتها بخصلات شعرها السائب
تخبره بأن عليها العودة إلى منزلها قبل أن تظهر مجددا في اليوم الأخير من المؤتمر
يسألها في دهشة عن السبب، فتجيبه قائلة: "سيعرفون.. رفيقاتي بالذات سينتبهن إلى أنني لم أغيّر ثيابي، ولن تفوتهن تلك الملاحظة"
شعر بالأسف والأسى، وتَشَاغَلَ بترتيب ثيابه في جوف حقيبة سفر تنامُ في محارة العزلة، حتى أنها نسيت كيف يبدو العالم في الخارج
يتناولان طعام الإفطار في الفندق.. اختار العسل والكرواسان، وفضلَّت هي التوست وشرائح الجبنة
تتهادى مع قهوتها في المطعم، يُداخلها زهو امرأة مارست الحب حتى الصباح
يحين الوداع
عمره كله نضج على نار تلك اللحظة
يمسكُ بيديه وجهَ الفتاةِ واهبةِ العسل ويقول: سوف ينتهي العالم. السبب الوحيد الذي قد يمكنه أن يدوم لأجله هو أنك موجودة فيه
يواسيها ببضعة أبيات نظمها غوته، قبل أن يحتضنها برأفة قبطان.. لوهلة، أو لوهم
يحدثها عن وعود بالتواصل - لن تتم عادة- فتكافئه بدمعة
يتنهدُ وهو يراقبُ ظلها الذي يوشك أن يختفي
سوف تبدد الدفء رسائل إلكترونية لاحقة
وأسوأ كوابيس البعاد هو النسيان