فتوات تحت الطلب (3): سكسكة وأخواتها

في عالم الفتوات والبلطجية، لكل حادثٍ حديث، ولكل مهمة ثمن
ولعل ما يسترعي الانتباه أن المرأة دخلت بثقل لا بأس به - يصل إلى نسبة الثلث- في بلطجة الشارع المصري، حسبما أوردت وزارة الداخلية من إحصائية رسمية لعام 2003. والبلطجي الآن موجود في الشارع المصري وبتسعيرة متدرجة حسب نوع العنف المستخدم أو حسب قوة الترهيب والتخويف والتأديب التي يستخدمها الآخر ضد الآخر
والنساء الفتوات - مثل فتوات الرجال الذين تحفل بهم قصص وروايات الأديب الكبير نجيب محفوظ- أشكالٌ وألوان، البعض منهن تخصص - خاصة أثناء سبعينيات القرن الماضي- في مزاحمة الأخريات في الطوابير الممتدة أمام الجمعيات الاستهلاكية للحصول على نصيب الأسد من السلع التموينية، من دون أن تجرؤ سيدة أخرى على بسيطة الحال على الاعتراض أو تحدي سطوة هؤلاء النساء اللاتي يعرفن كيف يصبحن مصدر ترهيب وتخويف لكل من تسول لها نفسها تحدي هذه البلطجة الاستهلاكية
تطورت الحال بعد ذلك لتصبح المرأة الفتوة مطلوبة لإدارة لعبة الانتخابات بطرق وأساليب التحايل، حيث تتولى مثل تلك النساء مهمة تخويف المرشحات والناخبات على حدٍ سواء، ومنعهن من الإدلاء بأصواتهن في الدوائر الانتخابية، في حين تتستر هؤلاء الفتوات على ألاعيب الذين يغشون ويزوِّرون الأصوات ويدفعون الموتى والغائبين رغماً عنهم للإدلاء بأصواتهم لمصلحة هذا المرشح أو ذاك
ويذكر كثيرون ما جرى مع جميلة إسماعيل –زوجة النائب السابق أيمن نور- حين ترشحت لعضوية مجلس الشورى عن دائرة الجمالية في العاصمة في 2001، لكنها صُدمت آنذاك نتيجة استخدام البلطجية ضدّ حملتها الانتخابية. جميلة –التي كانت المرأة الوحيدة بين 658 مرشحاً- واجهت في الانتخابات أحد أقطاب الحزب الوطني الحاكم، وهو زعيم الأغلبية في مجلس الشورى محمد رجب. غير أنها اضطرت إلى الانسحاب في 7 ينويو حزيران 2001، بعد أن تعرضت لمهزلةٍ أخلاقية ناجمة عن تأجير منافسيها مجموعةً من النساء الفتوات للإساءة إليها وتمزيق ملابسها وتقبيلها بالقوة بطريقةٍ مقززةجميلة اسماعيل قالت في بيان انسحابها: "إنني أعلن انسحابي من هذه المهزلة وأسحب كل مندوبي من اللجان الانتخابية وأترك الساحة التي تحولت إلى مظاهرة عسكرية وأكتفي بالمساحة الكبيرة التي نشغلها في القلوب الطاهرة النظيفة"
غير أنها تحدثت بعد ذلك بتفصيل أكبر عما جرى لها شخصياً، حين قالت في سياق تفسير انسحابها من سباق الانتخابات: "لم يكن عندي من الشجاعة وقتها أن أقوم بعمل بلاغ، رغم أن ما حدث للصحفيات والإعلاميات على باب نقابة الصحفيين في استفتاء 25 مايو 2005 على تعديل المادة 76 من الدستور هو بالضبط الذي حصل معي قبلها بسنوات"وجرائم البلطجيات في الانتخابات المصرية ألاعيب تتكرر وتقع، بعد دفع مبلغ معلوم لمثل هؤلاء الفتوات اللاتي يفضلن أساليب البلطجة ويملكن أسلحة وأدوات الضرب والإيذاء ولا يتورعن عن ارتكاب جرائم مختلفة بمقابلٍ مادي
بل إن الكاتب الصحفي سلامة أحمد سلامة نشر في عموده الصحفي في جريدة "الأهرام" أثناء معركة انتخابات مجلس الشعب عام 2000 شكوى من سيدتين فاضلتين كانت إحداهما د. هدى بدران رئيسة رابطة المرأة العربية، تحدثتا فيها عن معاناة الإدلاء بالأصوات بسبب تدخل هؤلاء الفتوات لمنع السيدات من الاقتراب من مراكز الاقتراع، وذلك حتى يتسنى لآخرين "طبخ" النتائج لمصلحة أحد المرشحين. إن هؤلاء البلطجيات يعملن في موسم الانتخابات ويزداد الطلب عليهن بقوة؛ لأنهن ببساطة يفعلن ما يعجز عنه الرجال، وهو "التعامل" مع النساء وتخويفهن لتحقيق مصلحة مرشح ضد آخروإذا كانت السينما قد استقطبت بعض هؤلاء الفتوات للمشاركة في أعمال فنية، خاصة في أدوار نزيلات السجون اللاتي تبدون مسترجلات، تتسم طباعهن وسلوكياتهن بالفظاظة والعدوانية، فإن عدداً من فتوات السينما كن يمارسن هذه المهمة بنجاح، على الأقل حين تدور عدسات الكاميرا، ليقدمن فاصلاً من الضرب والردح والتهديد..وفي بعض الأحيان كن يقدمن مشاجرات سينمائية يتولين فيها مهمة ردع وتأديب نساء أو رجال بنجاحٍ قد يثير موجات من الضحك والدهشة لدى البعض في دور العرض السينمائي
وعلى أرض الواقع، برزت فتوات من العيار الثقيل، لعل أشهرهن تدعى "سكسكة"، التي يروي لنا حكايتها أستاذ علم الاجتماع د. زيدان عبد الباقي في ص 531 من كتابه "المرأة بين الدين والمجتمع" (مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1981). فقد كانت سكسكة سيدةً مرهوبة الجانب، يخشاها الجميع، وتحولت إلى أسطورة مخيفة نسج حولها العديد من الحكايات المبالَغ فيها؛ لأن الثقافة الشعبية تحب الإضافة والزيادة والمبالغة في التفاصيل لتصبح الحبة قبة
وسكسكة كان مقر نشاطها في شارع أبو هريرة في شياخة رابعة بالجيزة. ففي هذه المنطقة كان يوجد "سوق البرسيم" الذي يتردد عليه الكثير من التجار، وكان المعلم مرسي صاحب المقهى الشهير في هذه المنطقة متزوجاً من "أم سيد" التي اشتهرت باسم "سكسكة". وكان هذا المقهى ملتقى فتوات القاهرة والجيزة، حيث كانوا يقضون فيه سهراتهم التي تمتد إلى الساعات الأولى من الصباح
وبعد وفاة زوجها، تولت هي إدارة شؤون المقهى. وكانت سيدة فارعة الطول قوية الجسم ولها عضلات تمكنها من التغلب على من يقف أمامها، وكان على ذراعها وشمٌ، شأنها شأن الرجال يومئذٍ، وكانت ترتدي "الصديري" والجلباب البلدي الرجالي والكوفية مثل التجار الكبار المعروفين بلقب "المعلمين". وكانت تمسك بيدها عصا غليظة طويلة "شومة". أخذت سكسكة توسع نشاطها حيث كانت تستأجر - مع آخرين- أرض السوق من الحكومة وتؤجرها هي للمترددين على السوق من تجار الدواجن والغلال والأقمشة وما إلى ذلك. ولم يكن لأحد من هؤلاء أن يمتنع عن دفع المستحق لها، فقد كانت تضربه بعصاها، وتضرب كل من ينضم إليه مهما كان عددهم
توفيت "أم سيد" وتركت وراءها محمد وسيد، واتسم كلاهما بحسن الخُلق والشهامة، كما تركت شقيقة لهما تدعى نفيسة، حاولت أن تتشبه بأمها، ولكنها لم تحظ بأي شهرة. أنجبت نفيسة هذه كلاً من قرني وسلامة، وكلاهما مثل أخوالهما في الطيبة وحسن الخُلق. وكانت شقيقتهما جليلة تضربهما في الصغر. وأطلقت جليلة هذه على نفسها اسم جدتها وهو "سكسكة"، وقد فاقت في شهرتها شهرة جدتها، وكانت حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي لا تزال على قيد الحياة، وإن كانت قد جاوزت آنذاك الثمانين من عمرها، ولم يعد لها أي شهرة سوى التاريخ فحسب
وكانت جليلة هذه ترتدي زياً مماثلاً لزي جدتها، ولم يكن لها عمل طوال النهار سوى استغلال قوتها البدنية في إيذاء الآخرين والاعتداء على أبناء الحي وأبناء الأحياء المجاورة، وتفرض عليهم "الفِردة" أو الإتاوة، وويلٌ لمن لا يقوم بدفعها، الأمر الذي يؤكد اختلاف أسلوبها عن أسلوب جدتها التي كانت تتشبه بالفتوات من الرجال ذوي المروءة وليس فتوات شارع عماد الدين وشارع محمد علي، فقد انحرفت إلى أن عرضت نفسها للإيجار، وبات من يرغب في ضرب شخص أو طرده من مسكنه أو تلفيق تهمة له، يلجأ إلى سكسكة حتى تتولى أداء المهمة نظير أجرٍ معين
تزوجت سكسكة الحفيدة من كلٍ من عامل بناء يدعى حسن السمّاك، ثم ارتبطت بآخر من عائلة "الكوامل" وهو صاحب سيارات نقل ركاب وبضائع، وقد أغدق عليها من ماله وأنجبت له ولدين أخذهما بعد انفصاله عنها لعدم استجابتها لأمره بالبعد عن المشاحنات مع الناس، وتمت تربيتهما تربيةً صالحةً مع جدتهما لأبيهما. وتزوجت بثالث يدعى عباس عامر، من فتوات الحي ومن تجار المخدرات. وقد تولت الاتجار في المخدرات مكانه بعد صدور حكمٍ ضده بالسجن
أما الزوج الرابع لها فإنه يدعى حسن، وكان كل من هؤلاء يتم زواجه بها بناء على رغبتها وبأموالها عادة، وليس لأحدٍ منهم أي شيء عندها، فقد كان حسن هذا يصغرها في السن، ولكنه وقد أعجبتها قوته فقد أحاطته بحبائلها وأغدقت عليه من أموالها حتى وافق على تحويل علاقته بها من علاقةٍ غير مشروعة إلى زيجةٍ رسمية، وقد كلفها ذلك كل أموالها تقريباً. ومن أولادها: مرسي، عقدة، مبروك، نوال، سيد، عامر، عبلة، رجاء
لم تنجب سكسكة الحفيدة من زوجها الرابع، إذ تزوجته بعد أن بلغت سن الخامسة والأربعين. وبدلاً من بيع الدواجن، تركت هي زوجها هذه الحرفة إلى فتح "غرزة" شاي. ومع الشاي، كان زوجها الرابع يتاجر في المخدرات. ولم يكن زوجها يشاركها الاعتداء على الناس، وإنما كانت هي تشاركه هوايته في الاعتداء على رجال الشرطة، حتى أصبحت أشبه بمن كان يطلق عليه "أبو طاقية سوداء" والذي كانوا يخيفون به الأطفال في شجارهم مع الآخرين.. تركل بالأقدام وتنطح بالرأس وتضرب بالنبوت وتعض بالأسنان...إلخ
أخذ نجم سكسكة الحفيدة في الأفول بعد أن تلقت علقة ساخنة على يد المواطن سيد عجلان، إضافة إلى ظهور سيدة قوية أخرى تدعى "حميدة" كانت قوية على الظالمين ونصيرة للمظلومين، أي أنها كانت فتوة بالأسلوب الرجالي القائم على الشهامة. وقد انعكس أسلوبها على كل أبنائها، ولم يستطع أي واحدٍ منهم أن يحتل مكانة الأم في ملاعب الفتوات، الأمر الذي جعل سكسكة تعيش أيامها الأخيرة وهي تجتر ذكرياتها الأليمة حزينةً على شهرتها ومتحسرة على سمعتها والسنوات التي قضتها في السجون نتيجة الاعتداء على إحدى السيدات وفقء عينها وكسر ذراعها لمجرد إظهار قوتها، والاعتداء على كثيرات غيرها. ولم ينس لها البعض أنها لعبت دور "المرشد" للشرطة ضد كل من لا يدفع لها "الفِردة"
ومن أشهر النساء الفتوات أيضاً المعلمة توحة فتوة حي المطرية، وعزيزة الفحلة، وزكية المفترية التي تذكر مراجع عنها أنها فتوة سوق الخضراوات الموجودة في حي المناصرة، إضافة إلى "مجانص الدهل" التي تقول إنها منذ أن دخلت السجن في قضية مشاجرة أفضت إلى موت، وهي تحترف مهنة البلطجةوتعتبر "شر الطريق"، كما يسميها أنصارها، أشهر بلطجية حريمي في منطقة الجيارة بمصر القديمة، واسمها الحقيقي "كيداهم". هناك أيضاً "نفتالين بلية" و"مهبولة الشوارع"، والأخيرة بلطجية تجيد استخدام المطواة قرن الغزال، وتتقن رياضة "الكونغ فو" أيضاً
حكاية الفتوة توحة يرويها سيد صديق عبدالفتاح في كتابه "تاريخ فتوات مصر ومعاركهم الدامية" (مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995) فيقول عنها: "قبض البوليس على المعلمة توحة فتوة المطرية، بالقاهرة، ضربت 5 رجال وسيدتين في معركة، أغلقت المنازل والدكاكين في شارع بأكمـله، كانت تجري في الشارع وفي يدها السكين والمبرد، لم يجرؤ أحد على التعرض لها، عندما حضر البوليس استسلمت بلا مقاومة، إن سبب كل المعارك التي دخلتها توحة هو زوجها، إنها لا تطيق أن تراه في خطر، إنها تسرع إلى نجدته، وتبدأ المعركة، وتنتصر توحة دائماً. لقد ضربت توحة قبل ذلك 20 رجلا، ولها معارك كثيرة في حي المطرية
وفي 5 مايو أيار 2008، نشرت جريدة "الجمهورية" المصرية خبراً مفاده: "قضت محكمة جنح البساتين بحبس سيدة فتحي أبو زيد 3 سنوات وغرامة 30 ألف جنيه وتعويض مؤقت 2001 جنيه.. لاتهامها بالتعدي بالضرب على 3 رجال وإصابتهم بكسور وجروح.. إضافة إلى تحطيمها زجاج وديكور مقهى بالبساتين أثناء مشادة بينها وبين الرجال الثلاثة الذين أصروا على عدم جلوسها وسط رواد المقهى.. اعترض 3 من رواد أحد مقاهي البساتين على اقتحام المتهمة المقهى حيث إنها "فتوة" المنطقة ومسجلة خطر بلطجة ونشل ومشهورة "بالمتهورة"، إلا أنها أصرت على اقتحام المقهى وجلوسها على طاولة خاصة وسط الزبائن.. قدرت الخسائر بـ 30 ألف جنيه"







وينهي محفوظ سيرة عاشور، فتوة روايته الأشهر "ملحمة الحرافيش" والتي تناول فيها سيرة عشرة أجيال من فتوات القاهرة، بالقول: "انتصر عاشور الناجي على فتوات الحارات المجاورة فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل، فحق لها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة". وكان عاشور يسهر في الساحة أمام التكية يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعياً: "اللهم صُن لي قوتي وزدني منها، لأجعلها في خدمة عبادك الصالحين"
ودخل الفتوة السينما أيضاً، بفضل محفوظ، من خلال العديد من الأفلام، مثل "فتوات الحسينية" و"الفتوة" (1957، إخراج صلاح أبو سيف) و"الحرافيش" (1986، إخراج حسام الدين مصطفى) و"التوت والنبوت" (1986، إخراج نيازي مصطفى) ومسلسل تليفزيوني بعنوان "السيرة العاشورية" (2002، إخراج وائل عبد الله)
هذه الظواهر بدأت تنتشر بشكل لافت في مصر أواخر العصر المملوكي، وحتى البدايات الأولى لبناء دولة محمد علي الذي استطاع أن يقضي على هذه الظاهرة أو على الأقل حد منها بقوة القانون وعنف الدولة. وازدهر نمو الجماعات الهامشية مع الانهيار التدريجي لنظام الطوائف الحرفية الشهيرة والذي كان لها دورٌ مؤثر في تحديث الدولة والعمران، أو في دعم النظام الاقتصادي الاجتماعي الموجود آنذاك في مصر. وقد أدى تآكل نظام الطوائف إلى نمو وتكاثر جماعات هامشية رصدها الكثير من المؤرخين وبخاصة الجبرتي وإدوارد لين، وتجاوز مجموع هؤلاء الأفراد في القاهرة وحدها مليوني شخص. وقد كان لهذه الجماعات دورٌ سياسي من حيث انحيازها للعوام في مقابل جبروت السلطة وقهرها، وقد انضمت إلى بقايا المماليك والعوام في محاربة الأتراك خاصة حرب العصابات التي دارت بعد هزيمة الجيش المملوكي في موقعة "الريدانية"
تجدر الإشارة إلى أن الشرطة المصرية في ثلاثينيات وأربعينات القرن العشرين حين أرادت التخلص من الفتوات، ولم يكن بإمكانها فعل ذلك، لجأت إلى الحيلة، والمؤامرة، فكانت توغر صدور بعض الفتوات على بعضهم البعض، فتحدث معركة تنتهي بسقوط فتوة، وهكذا تخلصت الشرطة من الفتوات. ولعل أشهر تلك المعارك هي التي وقعت في ميدان "الخمس فوانيس" بالاسكندرية حتى بدأت الشرطة تتحمل مسؤوليتها، بعمل أقسام شرطة. في بداية الأمر كانت الشرطة تلجأ للفتوات عند حاجتها إلى القبض على أحد اللصوص، إذا كان مختبئاً في حاراتهم، أو بأن يقوموا بتسليط أتباعهم للقبض عليه. وقد قام الفتوات بضرب بعضهم البعض حتى قضوا على أنفسهم من دون أن تتدخل الشرطة 
وللدكتور حسين مؤنس كتاب مهم صدر قبل سنواتٍ بعيدة تحت عنوان "عصر الفتوات: عصر البطولة للمصريين أيام الاحتلال والوزراء والباشوات" (دار الرشاد للنشر والتوزيع، القاهرة، 1993) ، ربما كان أجمل ما فيه، هو ما تعرض له الكاتب بأسلوبه الأدبي الرفيع إلى الدور البارز الذي لعبه الفتوات في التصدي للحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وكيف تلاحم هؤلاء الفتوات العظام مع صفوف الشعب المصري في التصدي للفرنسيين، وأظهروا مقاومة باسلة في ثورتي القاهرة الأولى والثانية
ويشير علي مبارك في خططه التوفيقية إلى أن نابوليون كان يضيق كثيراً بالشغب الذي يثيره هؤلاء الفتوات، الذين كان يطلق عليهم لقب "الحشاشين البطالين"، بل إنه كان في كثير من الأحوال وعندما يضيق به الأمر، يصدر منشوراته إلى طوائف الشعب يناشدهم فيها عدم سماع كلام هؤلاء الحشاشين. وكان بونابرت حينما بلغ بجيوشه منطقة إمبابة في طريقه إلى مصر، استنجد الأمراء المماليك بالعامة من الناس، بعد أن تخاذلت جنودهم، فخرج له "أولاد الحسينية" يتقدمهم الفتوات، ونازلوا الجيش الفرنسي بعصيهم فحصدتهم مدافعه حصداً
حيث يؤكد سامح فرج مؤلف "معجم فرج للعامية المصرية والتعبيرات الشعبية للصناع والحرفيين في النصف الثاني من القرن العشرين" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006) أن كلمة بلطجي تعني حامل البلطة باللغة التركية، وأنه في عهد الدولة العثمانية كان الجنود البلطجية – بمعنى حاملي البلطة - يتقدمون القوات الغازية يقطعون الأشجار بالبلطات ويشقون طريقاً أمام القوات المتقدمة وكان دورهم أيضاً عمل فتحات أو هدم أجزاء في جدران الحصون والقلاع حتى تقتحمها قوات المشاة ويضيف قائلاً: "ولم تكن كلمة بلطجي تحمل معاني سيئة، حتى أن أسماء البعض كانت مشابهة لها مثل (بلجه جي مصطفى باشا) الذي كان والياً على مصر قبل الدولة العثمانية 1752 - 1755، وفي عصر محمد علي والي مصر كانت قوات البلطجية موجودة في الجيش، ولكن في الثلث الأول من القرن العشرين أصبحت كلمة بلطجي صفة سيئة وتعني الشخص المستهتر الأقرب إلى الفتوات في الحياة الشعبية في فترات سابقة، حتى وصل الأمر إلى صدور قانون في السنوات القليلة الماضية "لمكافحة أعمال البلطجة وترويع الآمنين" لتصبح كلمة البلطجي في نهاية الأمر مرادفاً للمجرم"








