المحروسة

gravatar

كتاب الرغبة (21): جنون الاكتشاف





هذه روايةٌ عن الرجال الحاضرين ليغيبوا، والنساء اللاتي ألقمن الماضي طفولتهن ووهبن الرجالَ رحيقهن
إنها روايةٌ عن النساء، رحم الدنيا، اللاتي يتقن اختلاس الذكريات من خزائن الأمس، والرجال الذين ضمرت لديهم القدرة على الحب، حتى مع النساء اللاتي من سوء حظهن أغرمن بهم
وعندما نحبُ، فإنه لا توجد حرية حقاً إلا حرية الموت
وربما تكون الرواية عن امرأة لم تلعن يوم ولادتها، لكنها في المقابل غمرت باقي الأيام باللعنات



"امرأة ليس إلا" للروائية المغربية باهية الطرابلسي والتي ترجمتها الزهرة رميج (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005) رواية عن المرأة التي تصارع مجتمعها وثقافتها وتعيش ممزقة بين أفكارها وحياتها. وعلى امتداد صفحات الرواية البالغة 183 صفحة، نعيش مع بطلة الرواية ليلى، التي تتطلع دوماً إلى التمرد، حتى وإن قرأت في مرآة حياتها جملة ساخرة وجادة تصفعها قائلة:
"ما أنت سوى امرأة عادية" (ص 5)
نبحر في الرواية مع الفتاة الممتلئة الحجم والروح، التي فقدت أمها بعد أيام من ولادتها، ليتزوج والدها الثلاثيني من مرية، اليتيمة ابنة الستة عشر ربيعاً، تقول عن نفسها: "كان التمرد يسكنني. كنت أتمرد على كل شيء" (ص 32)
يسيطر عليها شعور بالوحدة، برغم الأسرة، ووسط الزملاء، على وجه الخصوص. إنه شعور المقدر له أن يكون وحيداً إلى الأبد
وفي الوحدة، تنبت لشجرة العزلة ثمرة مُرة اسمها: الشك
"كانت حفلة ليلة رأس السنة في أوجها، يتزاحم الكبار والصغار في حلبة الرقص. رأيت أحد أصدقاء أبي يضم ماما بقوة إلى صدره لدرجة أنهما يبدوان جسداً واحداً برأسين. كان يهمس في أذنها شيئاً ما وهي تضحك. انطلقت نظراتي، دون شعور، تبحث عن أبي. كنت قد سمعت ذات مرة حواراً بين ماما وإحدى صديقاتها، حول امرأة شابة ضبطها زوجها مع رجل آخر" (ص 15)
وبالرغم من نزوعها إلى الوحدة، فإن الفتاة التي كانت مستسلمة للخجل كان بها نزوعٌ شديد الحيوية إلى الحياة والمتعة، فالمتعة تلصقنا بالحاضر، مع أنها قد تحول بيننا وبين المستقبل


أولى علامات النزق ظهرت على الفتاة التي تتمايل في زيها المدرسي البرىء
"كنت في الرابعة عشرة عندما اكتشفت لأول مرة، نظرة رجل تقع عليّ. حتى ذلك الوقت، كانت نظرة الرجل تتلخص في نظرة أبي وأخي. أصبحت أنظر للحياة من زاوية جديدة. اكتشفت لعبة الإغراء. كانت كل الانكسارات التي راكمتها مصدراً للذة والسلطة" (ص 27)
وكان هذا الرجل "يأتي كل يوم إلى الثانوية لاصطحاب أبنائه، ينظر إليّ نظرات غريبة. نظرات تجردني من ملابسي فأشعر بالخفة ولذة الإغراء. كان في سن والدي. أثارتني فكرة إعجابه بي فأحسست أني أخرق كل القوانين التي لقنوها لي" (ص 27)
اقترب منها الرجل في الوقت الذي اعتقدت فيه أنه لن يتجرأ على ذلك. دعاها إلى قضاء ما بعد ظهر اليوم التالي معه
"الرجل الذي سألتقي به سيحررني" (ص 28)
هكذا تصورت الفتاة التي كانت تتألم لشعورها بأنها غير محبوبة من طرف أبيها الذي جفت ينابيع حنانه بعد وفاة زوجته الأولى
في الموعد المحدد، بدأت مغامرة غير مكتملة لاكتشاف الجسد. كانت الوحيدة التي تعلم أن قدرها في الحياة هو التأرجح، والاقتراب من السقوط، الذي يوماً ما سيحدث لا محالة
"عندما وصلت، كان في انتظاري. أخذني إلى شقة غير بعيدة في الثانوية عن الثانوية في عمارة قديمة ومتسخة وهو يحرك رأسه يمنة ويساراً مخافة أن يراه أحدٌ معي. عش الحب الذي اختاره كان عبارة عن غرفة ضيقة من غرف الطلبة تعمها الفوضى وتفوح منها رائحة الرطوبة. فوق الفراش غير المرتب، توجد قيثارة. عزف قطعة موسيقية، ثم أخذني بين ذراعيه. ضمني إليه بقوة وقبلني. كانت تلك أول قبلة لي. وجدتها مقززة شيئاً ما. انزلقت يده فوق ظهري لتلامس كل جسدي بحركاتٍ متهيجة ومضطربة. بدا لي تردده واضطرابه كعلامة على ضعفه. كان تحت رحمتي. وجهه يوحي بأنه على حافة الانهيار. كنت أراقب انفعالاته. بقدر ما أبدو أقل تأثراً، بقدر ما كان يحرص أكثر على التأثير عليّ. أحسست أن قوتي تكمن في عدم قدرته على زلزلتي. لقد أزعجه برودي" (ص 28- 29)


لم تسعفه شهوته المتمرّغة في وحل اللهاث بين نهدين صاخبين وجدائل مبعثرة
كان الرجل عابراً في كلام عابر.. تبخر في هواء الغرفة، لأنه لم يترك بصمة على الروح أو لمسة لا تنسى على الجسد المرتعش


كم نجري على منحدر ونحن راغبون في أن نتعلق بالأشجار، فإذا بنا نخلعها ونحملها معنا في سقطتنا


"لا تخافي. لن أؤذيك". قال
هذا الرجل الحريص على إغرائي لم يكن يخيفني. لم أكن أرغب فيه، وإنما أريد استخدامه فقط. غير أن طريقته في التقرب مني أزعجتني. التصقت به، فـأحسست بعضوه ينتصب. داعبني طويلاً وهو ينزع ملابسي، ثم أزال ملابسه بسرعة كما لو أنه خشي أن أتراجع وأغير رأيي. اجتاحتني رغبة في طمأنته غير أني لم أفعل. أمسكت عضوه في يدي، تدفعني رغبة في معرفة شكله. تمدد فوقي. انتظرت متصلبة، لكن شيئاً لم يحدث. العضو الذي أمسكت به قبل قليل تغير تماماً. انكمش على نفسه ذابلاً. أحسست بالراحة والدهشة في نفس الوقت. لم أتمالك نفسي من الضحك. فقال لي: "هذه أشياء تحدث. سنحاول مرة أخرى". لكني أوقفته عند حده، عازمة على عدم المحاولة" (ص 30)


إن محاولة ممارسة الحب مع شخصٍ غير بارعٍ مثلك تشبه التوغل في مياهٍ عميقة مع شخصٍ لا يجيد السباحة أيضاً


"أما تلك الفتاة الجريئة التي كنتُها مع رجل الثانوية، فقد تلاشت تماماً وحل محل جرأتها خجلٌ مرضي. ومع ذلك، فقد أردتُ أن أكون أكثر جرأة. لذا كنت أهيىء نفسي للقيام بأفعال جسورة. غير أني في آخر لحظة أفقد كل أسلحتي" (ص 37)

بدا الأمر كأنه اشتعال فتاةٍ مؤجلة الحواس، تنتظر من يطبق على شفتيها الحارستين كي يسترد وديعته: الماء


"علمتني ماما أن المرأة ما إن تمنح الرجل نفسها حتى يتخلى عنها. لكن إحساسي يقول لي عكس ذلك. ماما كانت تحذرني من كل الإغراءات. كان مسموحاً لي أن أربط علاقات مع الشبان، لكن العلاقات الجنسية ممنوعاً منعاً تاماً. عليّ أن أحتفظ ببكارتي لزوجي. غير أني لم أكن أولي هذه البكارة أية أهمية ضداً على كل المبادىء التي تلقيتها. لم تكن البكارة تعني لي سوى حاجز يجب اختراقه لدخول عالم الكبار" (ص 29)
بذرة التمرد تنمو، وتخلق أسباب الحنق على الآخرين
"أما أخي، فرغم كونه أصغر مني، إلا أنه كان حراً في التصرف في وقته كما يشاء. كان يعامل معاملة الكبار. بل الأكثر من ذلك، أن له الحق في إحضار صديقاته إلى المنزل، والاختلاء بهن دون أن يثير ذلك حفيظة أحد. كنت أتجسس عليهم والغيرة تحرقني. فأحقد على العالم كله بسبب هذا الظلم" (ص 31)


تتلقى الفتاة دروساً إضافية في الحب في "الأمسيات النسائية" التي كانت تنظمها الخالة زكية لنساء مجتمع الدار البيضاء
"شرحت لنا الخالة زكية، متواطئة، كيف يمكن للمرأة أن توقع الرجل في حبها وأن تحتفظ به وتجعله دائم التعلق بها. اقترحت على ماما أن تجرب مع أبي فشجعتها بدافع حب الاستطلاع فقط، لأني أعلم علم اليقين أن هذا الأمر لم يعد يعني شيئاً لماما ومنذ زمن طويل. حسب الخالة زكية، يكفي أن تحرق المرأة قطعة ثوب تكون قد ملأتها بمني الرجل أثناء العملية الجنسية، مع بعض الأعشاب في مجمر" (ص 49)
تلعب الخالة زكية دور المحرض، إذ تشجع زوجة الأب على التمرد واكتشاف عالمها الشخصي، والاستقلال المادي عبر إقامة متجر للملابس. وربما لهذا كان الأب حانقاً على وجودها في حياة زوجته مرية

أحبت ليلى ابن الجيران، فاضل، الذي يكبرها بست سنوات، لكنها لم تستطع أن تخرج من سنوات حبها الصامت. ذهب فاضل إلى الدراسة في فرنسا، وكان كلما عاد في إجازات قصيرة أجج مشاعرها أكثر من ذي قبل
"كنتُ موزعة ما بين الرغبة في الاحتماء برفاهيته وبين جنون اكتشاف نفسي بنفسي"
(ص 36)، و"استطاع فاضل أن يهز أعماقي ويجردني من ثقتي بنفسي، وأن يسحرني بأفكاره. كان جذاباً وأبوياً في نفس الآن، الشيء الذي أربكني وحيرني" (ص 36)

كانت في حضوره مثل العسل الخليع، الذي يقطر شهوة

"رغبتي القوية فيه كانت تحول دون استمتاعي بتلك اللحظات السعيدة؛ إذ أتلاشى وأفقد توازني بمجرد ما أحس بنظراته تقع علي. تحرقني حرارة يده وهو يمسك بيدي" (ص 36)
يدها تقسم في الضوء أنه سيكون لها يوماً ما
"لقد بلغ حلمي بالزواج من فاضل إلى درجة إحساسي أن حياتي لم يعد لها أي معنى، وأني لن أجد أبداً رجلاً بمثل هذا الكمال وهذا التميز عن الرجال الذين أعرفهم" (ص 56)
ربما لهذا غامرت ودست الأقراص المنومة في الشاي الذي قدمته ذات مساء، حتى ينام زوجها وامرأته وشقيقها رشيد، ويخلو لها الجو مع فاضل، لعله تقترب منه أكثر
غير أنها تصاب بصدمة حين تعلم أنه ارتبط بفتاة أخرى تدعى نبيلة، تعيش مع أمها في مراكش. وعندما تلتقيها ليلى تنهشها نار الغيرة
"صعقني جمالها. شابة طويلة القامة، رشيقة. خصرها نحيف لدرجة يبدو معها من الممكن إحاطته باليدين فقط. تبدو وديعة، هشة، وكأنها دمية من الخزف. شعرها الكستنائي اللون قصير جداً يكشف كل وجهها. ملامحها دقيقة. شفتاها ممتلئتان وشهوانيتان. عيناها عسليتان وناعستان. لا تشبهني في شيء" (ص 74)
بدا هذا كافياً كي تستسلم، وتسلم بخسارتها هذه الجولة
"كان عليّ أن أعترف أنها فتاة محبوبة" (ص 74)

يأتي الخلاص بالسفر
تقرر ليلى استكمال دراستها الجامعية في غرونوبل الفرنسية، حيث تصادق شيماء، ويجذب انتباهها عمر الذي كان على علاقة بامرأة تدعى إيسيتيل. تنجذب ليلى إلى عمر فيطلب لقاءها في اليوم التالي، حيث يدور بينهما حوار كأنه صفقة تجارية:
"- في الحقيقة لا أعرف ماذا أفعل هنا؟
- لأنك بكل بساطة راغبة في ذلك، فلا تعقدي الأمور. أقترح عليك أن نعاشر بعضنا فترة من الزمن نقرر بعدها ما إذا كنا نريد لعلاقتنا أن تصبح أكثر جدية
- وإيستيل؟
- لقد حذرتها منذ البداية بأني لا أعدها بشيء. لا بالوفاء ولا بمشاريع مستقبلية مشتركة. أنا لا أؤمن بالزواج المختلط وأنوي العودة إلى المغرب بعد إنهاء دراستي
- وأنا أيضاً لا تعدني بشيء؟
- أنت مختلفة. لكن يجب أولاً أن نقيم علاقة لنرى ما إذا كنا سنتفاهم. لا يمكننا، لا أنت ولا أنا، أن نعطي ضمانات حول المستقبل. سيكون ذلك مجرد خداع متبادل
- هل كنت ستخاطبني بنفس هذه الطريقة لو كنا في المغرب؟
- لسنا فيه. وعلينا أن نستغل هذه النعمة" (ص 86-87)

يوقف عمر سيارته أمام نزل صغير منعزل ويعرض على ليلى حجز غرفة فيه، فتوافق، لتبدأ مغامرة اكتشاف الجسد
والرغبة توقظ سوسنة في زوايا غرفةٍ ذاهبة إلى سماء بعيدة


"جو الغرفة الحميمي أجج رغبتي الجامحة. مر كل شيء بسرعة مفرطة. قبلات عمر بطعم الخمرة الحلوة الممزوجة بالتبغ، لا كقبلات رجل الثانوية التي لا مذاق لها. التحم جسدانا العاريان بعنف. حواسي كلها متيقظة. شهوتي عارمة. انتابني إحساس حاد بجسدي. اخترق جسدي دفعة واحدة بطريقةٍ شبه وحشية، ففوجىء بحاجز يتعرض سبيله. سرى بجسدي ألم ممزوج باللذة. كان، بادىء الأمر، يتحرك داخلي بصعوبة ثم بسهولة أكثر فأكثر. نظر عمر إليّ. عيناه ساهمتان، وجهه منكمش ومتمركز حول إحساسه باللذة. انبطح فوقي. كنا معاً نتصبب عرقاً. ثم جلس على الفراش وأشعل سيجارة سحبتُ منها نفساً طويلاً. أحسست أنه راح بتفكيره بعيداً عني" (ص 89)


ها هو يروض نمور رغبتها، وها هي تلح على أنيابه كي تنغرس في لحمها
استطالاتٌ دافئة داخل كهوفها العميقة، تولد لذة أبدية، وهي تتخبط تحته مثل سمكة فقدت بحرها
وما بين غبطة الولوج ونعمة الولوج، تتوالد الأسئلة الخارجة من باب الدهشة


"- لماذا لم تخبريني بأنك لازلت عذراء؟ قال بلهجة المعاتب
- وهل البكارة شيء مهم يجب أن نعلقه على جباهنا؟ هل هي ذات أهمية كبيرة؟
- بكل تأكيد. أتمنى أن لا تكون طريقتي جد عنيفة" (ص 89)
بعد قضاء الليل في النزل الصغير، عادت ليلى إلى مسكنها في غرونوبل، لتبدأ في تفحص وجوه الآخرين متسائلة: "من منهم قضى الليل في ممارسة الجنس مثلنا؟ وما هي أحاسيسهم الآن؟" (ص 90)
ثم يحين وقت تفحص الذات
"عندما كنتُ أستحم تفحصت جسدي بحثاً عن شيء غير عادي، فما وجدت سوى ذلك الجرح الخفيف الذي نزف بداخلي وتركني مفتوحة إلى الأبد وقابلة للانكسار. سرت قشعريرة بجسدي عندما تذكرت مداعبات عمر ولمساته المثيرة. يا إلهي! تجتاحني رغبة عنيفة في رؤيته" (ص 90)
إنه الاجتياح الذي نستسلم له في سعادة غامرة
يغمرها اشتياق إلى سعير يدفئ سماءها، وتحن إلى نيازكه كي تنطفئ في أرضها
"كل ما سمعته من قبل عن العلاقة الجنسية تلاشى ليحل محله عالم جديد مسكون بالرغبات واللمسات والعنف الممزوج باللذة. أحسست بالرغبة في إعادة الكرة مرات ومرات" (ص 90)
جعلت منه شمساً بلورية وحاجة قصوى في مدينة لا تعرف إلا الصقيع

ولأنها تفتقد في ركن منزو من ذكرياتها حبها لفاضل، فإنها تفكر فيه وهو يمارس الحب مع زوجته، ويمتد شريط التخيل أمامها. "كل الذين أعرفهم مروا أمام ناظريّ وهم يمارسون الجنس. ماما وأبي. الخالة زكية وزوجها. والآخرون. أثارني هذا الجانب المتلصص الذي اكتشفته فيّ" (ص 91)
تنقاد ليلى وراء رغباتها، وتحاول استرضاء عمر "وجدتني مستسلمة له ككلبة" (ص 91) و"أصبحت خاضعة لرغباته وتحت أمره متى شاء" (ص 92)، ويسيطر عليها "هاجس الخوف من أن يتخلى الرجل عني بعدما يكون قد أخذ أغلى ما أملك ألا وهو بكارتي" (ص 92)
ربما كان السبب في تلك المخاوف هو تجارب ليلى نفسها. "كل الرجال الذين عرفتهم حتى الآن، توجد في حياتهم نساء أكثر أهمية مني. وعمر لا يشكل استثناء لهذه القاعدة. كنتُ أريد أن أربح الرهان وأن أنتصر ولو مرة واحدة في حياتي، حتى لو خرجت محطمةً من هذا الانتصار" (ص 95)
ومن أجل إسعاده، تسعى إلى استئجار شقة يزورها فيها عمر حين لا يكون مع إيستيل، ثم تبيع مجوهراتها لتسدد ديونه، وقبل ذلك "لم أعد أطالبه بأي شيء، ولا حتى بإخبار إيستيل بعلاقتنا. اعتقدت أن طلباتي كلما قلت، ازداد حبه لي" (ص 96)

لم تدرك الفتاة أن الرجل الذي في حياتها، يغذيها ويتغذى عليها


وأثناء قضائها عطلة الصيف في الدار البيضاء، تعترف ليلى لزوجة أبيها بتفاصيل علاقتها المعقدة مع عمر، التي يرسل لها بدوره رسالة يبثها فيها أشواقه قائلاً: "أتخيل انجذابك الشهواني الخالص نحوي واكتشافك الباهر للجنس، فأشعر بالسعادة لكوني الفاتح الأول" (ص 101)
وفي لحظة مصارحة، تكتشف ليلى، ونكتشف معها، معاناة زوجة الأب، إذ تقول لها أثناء حوار دائر بينهما
"- من الصعب تحقيق التوافق الجنسي في العلاقة الزوجية. أنا شخصياً لم أعرف معنى ذلك أبداً. لا نتواصل أنا ووالدك. الحديث عن الجنس بالنسبة إليه ممنوع. كم كنت أتمنى لو نتحدث فيه بكل حرية
- هل تقصدين أنك لم تعرفي، قط، معنى اللذة الجنسية؟
- ربما ليس من اللائق أن أحدثك عن هذا، ولكنك الآن أصبحت امرأة ويمكنك أن تفهمي. لست وحدي من تعاني من هذه الوضعية. معظم رجالنا لا يفكرون جدياً في رغباتنا نحن، بل يفضلون عدم اكتشافها، معتبرين ذلك أمراً فاحشاً. وحدهن العاهرات - في رأيهم- يعبرن عن الرغبة في ممارس الجنس" (ص 104)


اعترافات زوجة الأب عن علاقتها الجنسية أصاب ليلى بالاضطراب.. فما أصعب العيش مع كائن لا يحمل لك إلا النفور، يحرث في حقولك البكر بميكانيكية كآلة جز الحشائش
كأنه بيتٌ من طابقين: رجلٌ شاردٌ في الطابق العلوي، وامرأةٌ ضائعة في الطابق السُّفلييا لقلبكَ أيها السقف، كيف تتحمَّل أن تكون بكل هذه القسوة؟


"لم أكن أرغب في معرفة ذلك. تخيلتها تتخذ عشيقاً لها، غير أني لم أنزعج كثيراً لهذه الفكرة. لقد تغيرت ماما. أصبحت تتقبل بعض الأشياء التي كانت تعتبرها، حتى وقت قريب من الفضائح. لقد فاجأني رد فعلها المتسامح تجاه علاقتي بعمر. لاشك أن الخالة زكية لعبت دوراً مهماً في هذا التحول. أصبحت أكثر مرونة وأكثر تقبلاً للأفكار الجديدة مما جعلها تبدو أكثر أهمية. تمنيت من أعماق قلبي أن تجد ذات يوم السعادة ولو على حساب أبي" (ص 105)
لم تكن ليلى تدري أن أمنيتها ستتحقق يوماً ما، على حسابها هي أيضاً
ففي أعقاب عودتها إلى غرونوبل لاستئناف دراستها، اخذت ليلى تدرك أن ابتعادها عن عمر مسألة وقت ليس إلا. وذات يوم تعرفت على الفرنسي الأشقر آلان، الأستاذ المساعد في الجامعة، الذي بدا لها مختلفاً عن باقي الرجال الذين عرفتهم في حياتها. "كان رقيقاً، صبوراً ومختلفاً عن أولئك الذين عرفتهم من قبل. لم أختلط، حتى الآن، إلا برجالٍ يفرضون بسرعة علاقاتٍ قوية لصالحهم، كما لو أنهم يريدون إثبات سيطرتهم منذ البداية. أما آلان، فقد كان ينصت إلى الطرف الآخر ويحترم رغباته، الشيء الذي أضفى على علاقتنا طابع الطهارة والبراءة" (ص 114)

وبتلقائية شديدة، يصطادان معاً تلك الرعشة الغامضة


"كنا جالسَين على الكنبة نحتسي القهوة، فضمني إلى صدره. مارسنا الجنس بحنان ودون عنف الرغبة" (ص 115)
يداه تعملان في حقلها، وتقودان جسدها إلى النهر. يصقلها بيديه، بدفء لسانه، بعشق يلألئ ألوانها وأيامها
ها هي ليلى وقد أصبح في حياتها رجلان
وعندما أهداها آلان ذات يوم فرشاة أسنان ومفتاح بيته، قررت مفاتحة عمر في أمر قطع العلاقة بينهما؛ لأنها وجدت في الفرنسي حباً أعمق، فيغضب عمر بشدة ويصفعها ويصفها بالفاجرة، مع أنه يمارس الشيء نفسه. هل هي ازدواجية الرجل الشرقي؟
توجد جلودٌ سميكة لا يكون احتقارها انتقاماً
على أننا هنا نشير إلى أن الرواية تبدو مكتوبة للقارىء الغربي بالدرجة الأولى، وهو ما يمكن التقاطه من شرح الروائية لتفاصيل كثيرة تتعلق بالمرأة الشرقية ووضعها وحدود علاقاتها الجسدية خارج مؤسسة الزواج، والنظر إلى الصلاة والحجاب وأداء فريضة الحج كإحدى علامات التطرف
زلزالٌ جديد ضرب أرض ليلى حين علمت أن حبها الأول، فاضل، طلق زوجته وقرر الاستقرار في الدار البيضاء. فقد كانت تدرك في قرارة نفسها أن علاقتها مع آلان لن تؤدي بهما إلى الزواج. وأثناء عطلتها الصيفية، عادت ليلى إلى منزل العائلة، حيث التقت فاضل بعد عشرين يوماً. وفي لقائهما الأول، لاحظت ليلى أن فاضل وزوجة أبيهما متقاربان حتى إن عمر نادى الأخيرة (مرية) بالاسم مجرداً من أي رسميات. بدت علاقتهما حميمة بالنسبة للفتاة العائدة، لكن زوجة الأب بددت شكوكها وقالت لها ببساطة: "فاضل بمثابة ابني" (ص 127)
غير أن ليلى أخذت شكوكها تكبر كلما زار فاضل منزل عائلتها. "لم يكن يرى سوى ماما. أما أنا، فيكاد لا يعيرني أي اهتمام" (ص 127). "أحسست بماما وكأنها تخونني. كانت الطفلة بداخلي هي من يتألم. هي التي لم تعد تشعر بالأمان" (ص 128) و"أن تسرق مني فاضل معناه أنها تسرق طفولتي أيضاً" (ص 128)
والدها الذي أصبح غارقاً في بحيرة ذاته، ومتباعداً عن عائلته، كان يلوم الخالة زكية التي تجرف زوجته بعيداً. لم تجرؤ ليلى على أن تسأله عما إذا كان يعتقد أن زوجته تخونه، فقد تهيبت إجابتهن غير أنها وجدت مشاعرها تتغير. "أتألم لأبي وللهوة العميقة التي انحفرت بيني وبين ماما. اكتشفت أني قد أكرهها كغريمة لي. هذا الإحساس جعلني أشعر بالذنب. كنت أتمزق موزعة بين عواطف الطفلة الصغيرة التي تحب أمها وعواطف المرأة المحبة للرجل الذي يعشقها" (ص 131)
وفي ظل هذه الحالة المرتبكة، أقامت ليلى في فرنسا ثلاث سنواتٍ متتابعة، دون أن تعود غلى المغرب. أصبحت علاقتها مع آلان أقرب إلى الصداقة منها إلى العشق، وعرفت رجالاً عابرين، لكنها نأت بنفسها عن المغاربة بعد أن أفقدتها علاقتها مع عمر الثقة فيهم
صارت أرضاً حين تلمسها، تشم رائحة الجماع
بعد أن أنهت دراستها الجامعية، عادت ليلى إلى الدار البيضاء، وسرعان ما التقت فاضل، ليتجدد غرامها به. أصبح فاضل مداوماً على زيارة العائلة، ولاحظت ليلى أنه لم يعد ينادي زوجة أبيها باسمها المجرد وإنما بـ "السيدة". قالت لها زوجة الأب إن فاضل يزورهم يومياً لأنه معجب بها. "أردت أن اصدقها. فليس من المعقول أن تزج بعشيقها بين أحضان ربيبتها، فقط من أجل خداع الآخرين؛ إذ هناك وسائل أخرى للتخفي" (ص 143). وعندما دعاها فاضل لتناول العشاء معه في أحد المطاعم وافقت بغير حماس. أعقب هذا اللقاء لقاءات أخرى، قبل أن يدعوها إلى شقته، فذهبت بكل اطمئنان. "كان التحام جسدينا وديعاً بقدر ما كان عنيفاً. تذوقت كل ذرة في جسده. ألغيت تفكيري. أردت فقط أن أشم رائحته وأنتشي بكل الأحاسيس التي تولدت وأنا بين أحضانه. حكيت له عن كل شيء: رجل الثانوية، هو، عمر، آلان والآخرون" (ص 145)
العاشقة تقصَّفُ عمرها، وتهمس لمن تحب بمصانعِ ذخيرتها، حتى تتحوَّل إلى انفجارٍ دائم
والمرأة تضع جنينها فوق صخرة، حتى يبتلعه الوقت
غير أن فاضل أعادها بسرعة إلى أرض الواقع، طالباً منها الاستعداد للعودة حتى لا يقلق عليها والدها. تصارح ليلى زوجة أبيها بتطورات العلاقة بينها وبين فاضل. وبعد فترة، يتفقان على الزواج في الصيف المقبل، وبالفعل يقام حفل الخطوبة في منزل ليلى
في هذه الأثناء، تترك ليلى عملها في إحدى الشركات، بسبب محاولة المدير الوصول إليها، ثم تستقيل من العمل في الوزارة بعد أن وجدت الوزير ينتظر منها الموافقة على أن تكون عشيقة له
وذات يوم، كانت ليلى على موعد مع القدر
أرادت أن تفاجىء فاضل بتحضير مفاجأة له بمناسبة عيد ميلاده، وكان ذلك قبل موعد زواجهما بشهرين. وهكذا تمكنت من الحصول على نسخة من مفتاح شقة فاضل، دون علمه، ودخلت الشقة محملة بعدد من العلب والحاجيات. وجدت في الصالون مزهريات مليئة بالورود، وعلبة صغيرة بداخلها سوارٌ من الذهب منبت بالأحجار الكريمة، نقشت عليه بأحرف دقيقة جملة "إلى حبي الوحيد". اضطربت ليلى لمجرد التفكير في أن فاضل كان يعتزم إهداءها هذه الهدية يوم عيد ميلاده
إلا أن صوت الباب وهو يفتح دفعها إلى الاختباء وراء المكتبة، لتفاجأ بدخول فاضل مع زوجة أبيها، ليدور بينهما حوارٌ حميم لا يخلو من عتاب، يبدأ بالأشواق والحذر: "- أشتاق إليك باستمرار. لم أعد أحتمل. منذ شهور كثيرة لم نلتق وحدنا. قال فاضل
- يجب أن نكون حريصين. فمصطفى يشك فينا دائماً. وليلى خطيبتك وقد تأتي عندك في أية لحظة تشاء
- أنتِ التي أردت هذه المسخرة. لقد طلبتُ منك عدة مرات، ترك زوجك والذهاب معي. لو فعلت، لكان الأمر أكثر بساطة " (ص 152)
حوارٌ كابوسي، عصفت بتفاصيله حمى الأوهام وأبالسة التخيل
ويصل الحوار إلى النقطة المركزية: ليلى
"- ليلى هي المرأة الوحيدة التي أتحمل وجودها إلى جانبك، لأنها تشكل جزءاً مني. صحيح أني لا أمتلك الشجاعة لترك زوجي ولكني من جهة أخرى لا أستطيع الاستغناء عنك. أتعذب لمجرد التفكير في زواجك من امرأة أخرى. مع ليلى الأمر مختلف. يبدو لي أني أتقبله بشكل أفضل" (ص 153)


في عين الإعصار، يكون الدمار أكبر من الأمل في النجاة
هكذا يهوي الفِراقُ، كشرفة سقَطت بكل زهورِها

"أحسستُ بركبتيّ تخوناني، وبالطنين يضج في رأسي، وبصرخة ألم تصعد ببطء من أعماقي. تتوقف قليلاً في مكان ما من جسدي قبل أن تنفلت من فمي مختنقة بمسارها الطويل" (ص 153)، و"لقد أمضيت وقتي ألعب لعبة الغميضة مع الحقيقة. كل شيء كان خادعاً" (ص 153-154)
في خضم اضطرابها ورغبتها في مغادرة المكان، نسيت ليلى حقيبة يدها ومفاتيح سيارتها، وعادت إلى البيت سيراً على الأقدام
والشوارع الخائنة لا تحنو على الخيبات
انهار عالمها أمام ناظريها في ثوان، فقررت ترك منزل العائلة، وفسخ خطوبتها من فاضل، دون أن تكشف للأب سر موقفها، إلى أن تعرف من الأب لاحقاً أنه كان يشك في العلاقة بين زوجته وفاضل، فتعترف له بأنها رأتهما معاً يوم عيد ميلاد فاضل

ليت الذاكرة كالمعدة لنتقيأ ما فيها في مرحاض طائرة

الغريب أن الأب يواصل العيش أو التعايش مع زوجته تحت سقف واحد، ويحافظان على حياتهما العادية في أعين الناس والعائلة، في حين اختفى فاضل نهائياً
يقرر الأب الزواج من رفيقة ابنته في السكن، وهي الفتاة المحجبة عائشة قائلاً لليلى: "أريد أن أقضي شيخوخة هادئة إلى جانب امرأة تحبني وتعتني بي" (ص 165). تطلب زوجة الأب الطلاق وتذهب للعيش في شقة اشتراها لها والد ليلى. أما الأخيرة، فقد وجدت في رجل مطلق، كمال، شريكاً لحياتها، تشاركه هو وابنته الصغيرة، سناء، بناء أسرة جديدة. تنجب هذه الأسرة طفلاً يطلق عليه اسم زهير، لكنها تصطدم برغبة كمال في أن تمارس دورها كأم، في حين كانت ليلى مصممة على الخروج للعمل
إنها لعنة التمرد والبحث عن الحرية التي تطاردها أينما كانت
تنتهي الرواية بمصالحة بين ليلى وزوجة أبيها السابقة، أقرب إلى الغفران
عبر سواد الليل، قد ننظر خلفنا إلى الأزمات والصدمات، ثم نلقي بأنفسنا بين أحضان أحبتنا المخطئين، لكي نجد فيها العفو الذي يليق بنا
لكن صراع ليلى يظل مستمراً، وتبدو رأسها - حتى خط النهاية- كفضاء تتصادم فيه الشخصيات والأحداث، والماضي والحاضر
ثمة نمرٌ يتعقبنا اسمه الندم، نرمي له قلبنا كي يوقف العدو باتجاهنا
القصة انتهت
غير أن رغباتنا تواصل البقاء

gravatar

انتهت الرواية ولم تقل لنا الخالة زكية كيف يمكن لامرأة أن تحتفظ بقلب الرجل الذي تحب.. للأبد

فالخالة زكية ببساطة
،شخصية نمطية تماماً
،مثل كل شخصيات هذه الرواية
..ومثل شخصياتنا الحقيقية في الواقع

هذا الواقع الذي يجبرنا جبراً
على أن نكون نمطيين
حتى في أوج تفانينا في التمرد
على كل ما هو نمطي ومنمذج


كلنا نمطيون ليس إلا

gravatar

مها

أهلاً بالصديقة التي تسعدني عودتها

في الرواية، تلعب الخالة زكية دور المحرض، إذ تشجع زوجة الأب على التمرد واكتشاف عالمها الشخصي

وربما لهذا كان الأب حانقاً على وجودها في حياة زوجته مرية

لكنك على حق، فهي في النهاية تبدو سيدة تشعل البخور لنداءات الجسد وإلحاحه المنهك

ورائحة البخور "زكية" لكنها لا تدوم طويلاً

gravatar

شدتنى القصة حتى تمنيت انها بين يدى رغم إدراكى بأنه لا جديد فوق سردك
....
صدمتنى النهاية نهاية ليلى تحديدا .. لم أتصور أن شخصية بكل هذا التمرد والعنفوان والرغبة فى الوصول لشئ ما لأنى أعتقد أن رغبتها وتحررها نحو الرجال لم يكن إلا نوع من البحث عن ذاتها...فكيف لهاأن تستسلم سريعا لنهاية تبدو رتيبة روتينية .. مجرد زواج

gravatar

تشبه كثيرا رواية لا انام لاحسان عبد القدوس....و لكنها تبدو اكثر جاذبية

اختيار قيم و موفق كالعادة يا دكتور

gravatar

السنونو

إنها الدوائر المفرغة: حياة المتمردين

البداية عادة لا تشير إلى خط النهاية
كأن الخضوع قدر البعض.. أو ربما يستسلم البعض تحت إلحاح الرغبة في العثور على بر أمان وقليل من الاستقرار

شكراً لك على هذا التقدير

gravatar

آخر أيام الخريف


بالفعل، هناك قدر من التشابه في العلاقة بين الابنة وزوجة الأب في روايتي "لا أنام" و"امرأة ليس إلا"

أعتقد أن "لا أنام" أفضل روائياً، لكن أجواء "امرأة ليس إلا" تتناول التمزق بين ثقافتين مختلفتين بشكل أعمق

أرجو أن تكون أيامك كلها طيبة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator