المحروسة

gravatar

محاكمة كرة القدم



هناك من يؤرخ لبداية ما يسمى "الاستخدام السلبي للرياضة" بصعود مصر إلى كأس العالم 1990، إذ كانت مصر وقتها في حاجة لمشروع يلتف حوله الجمهور بعد سلسلة من الإخفاقات والتغيرات الاجتماعية التي أثرت على المصريين، بالإضافة إلى حالة الجمود السياسي التي بدأت تظهر

وعلى يد منتخب محمود الجوهري جاء الحل عندما اهتم الناس بشكل تلقائي بالمنتخب والتفوا حوله، فظهرت لأول مرة مطبوعة رياضية حكومية تؤصل للاهتمام، وتدعمه وهي "أخبار الرياضة"، وبعدها بدأ عدد كبير من المطبوعات الرياضية في الصدور، وبدأ الجمهور في الاهتمام بالرياضة كبديل لأي مشروع سياسي أو اجتماعي، وهو ما لاقى قبولا عند النظام فدعمه، من خلال مظاهر عدة تطورت في 2009، لأكثر من قناة فضائية رياضية، ووزراء يسافرون خلف منتخب الكرة، أكثر من الوزراء الذين زاروا موقع حادث مثل عبَّارة "السلام 98" أو الدويقة

حتى في الكوارث العامة التي شهدتها مصر، كان لكرة القدم دور بارز وتأثير واضح

ففي 3 فبراير 2006، غرقت العبَارة "السلام 98" فـي البحر الأحمر الذي ابتلعت مياهه 1034 إنسانًا، معظمهم من المصريين العاملين فـي السعودية وباقي دول الخليج، ممن كانوا عائدين إلى عائلاتهم بعد أشهر أو سنوات من الغربة


وفي 27 يوليو 2008، برَّأت محكمة جنح سفاجا ممدوح إسماعيل، مالك العبَارة الغارقة "السلام 98"، وجميع المتهمين معه فـي القضية، فيما أدانت قبطان العبَارة "سانت كاترين" صلاح الدين السيد جمعة بالحبس ستة أشهر وغرامة 10 آلاف جنيه لإيقاف التنفيذ، وحمَلت المسؤولية الكاملة على عاتق قبطان العبارة الغارقة المفقود

وفي الحالتين، كانت كرة القدم حاضرة لغرض في نفس يعقوب

ففي المرة الأولى، كانت مصر على أعتاب المشاركة في كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم، وسرعان ما دارت آلة الصخب الإعلامي والرياضي ليعلو صوت هتاف المشجعين على أصوات أهالي ضحايا العبَّارة الغارقة. وفي نهائي تلك البطولة الذي أقيم في 10 فبراير 2006، كانت القيادة السياسية في مصر بالكامل تحتفل في الاستاد بالفوز وتتبادل العناق فرحًا بالفوز ، في حين غابت تمامًا – أو غُيّبت- أحزان قطعة من جسد مصر وأهلها وناسها، ممن لم تكن دموعهم قد جفت بعد حزنا على كارثة العبَّارة


تواصلت المباريات والاحتفالات، واتحد المصريون في فرحتهم بالكأس، ولم يوحدهم
الحزن على ما راح. اتحدوا في الصمت عن ممدوح إسماعيل بعد أن هُمشت التقارير التي تُدينه والاستجوابات وطلبات الإحاطة ليهرب على مرأى ومسمع من الجميع، ومع ذلك لم تتغير الأولويات وبقيت الكرة رغم كل المعاناة في صدارة الاهتمامات

وفي المرة الثانية، كان التشجيع على أشده في الشارع والإعلام المصري للقاء رياضي مهم بين ناديي القمة، الأهلي والزمالك على بطولة السوبر، فغابت صرخات الاحتجاج على حكم القضاء، قبل أن تنصف محكمة جنح مستأنف سفاجا الضحايا وذويهم بإصدار حكم جديد في 11 مارس 2009 ألغت فيه حكم البراءة الصادر من محكمة الجنح، وعاقبت ممدوح إسماعيل، بالحبس 7 سنوات مع الشغل والنفاذ، في حين برَّأت نجله عمرو

هنا تساءل البعض: هل كانت مصادفة أن يتعاظم الاهتمام والاحتفاء ببطولة إفريقيا لكرة القدم التي استضافتها مصر وفازت بها بعد أيامٍ من الكارثة؟ وهل كانت مصادفة أن يصدر الحكم القضائي الأول فـي يوم بطولة السوبر بين ناديي الأهلي والزمالك؟

إنها كرةُ القدم.. غسيل أموال وأرواحٍ من طرازٍ جديد

ووسط الحديث عن إصرار أهل السياسة على انتزاع انتصارات كروية وسط ركام الأزمات، نتذكر رأي د. مصطفى حجازي، الذي يقول إن "الجماهير في حالة قصور واضح، فيبدو وكأن الاستكانة والمهانة هي الطبيعة الأزلية لها، وهذا ما تحاول قوى التسلط غرسه في نفسيتها، والطريقة الكلاسيكية ليتحول المواطن إلى دجاجة مستكينة هي الإلهاء"


الإلهاء، أحد المفاتيح التي يطرحها البعض لفهم أبعاد العلاقة بين كرة القدم والسياسة

تيري إيغلتون، أحد أبرز المفكرين اليساريين الماركسيين في بريطانيا، يقول إنه "لو أن كل مركز أبحاث خرج بخطة لحرف أنظار الشعب عن الظلم السياسي وتعويضه عن حياة الأشغال الشاقة التي يعيش، فإن الحل لدى كل من هذه المراكز لن يخرج عن كونه واحدًا: كرة القدم" . ولذا، يدعو إيغلتون إلى "إعدام" هذه اللعبة: "لا أحد يمكن أن يكون جدّيا في دعوته إلى التغيير السياسي، يستطيع التهرّب من الحقيقة بأنه يجب إلغاء هذه اللعبة"

وبغض النظر عن هذا الاقتراح الذي قد يثير حنق ملايين البشر من عشاق الكرة، فإننا سنجد هناك من ينتقد التوظيف السياسي لكرة القدم ويقترح منح "صفر للسياسة المأزومة؛ حينما تريد أن تمتطي الرياضة الرابحة، لتمرر مشروعاتها الفاسدة، وتغطي على أدائها المهترئ، وتعوض الجمهور البائس عن خسائره، في الطبابة والتعليم والضمان والمكانة بين الأمم، بالتلويح بالعلم في مقصورة الاستاد، أو برسائل التهنئة ومداخلات الهاتف على الفضائيات الرائجة والمنتشية"

وكأن مرآة الاهتمام بالكرة وطغيانها على الأجندة السياسية، ألقت بظلالها على قضايا ذات بُعد قومي وعربي. وقارن البعض بين حماس المصريين لما حققه الفريق القومي لكرة القدم، وبين الفتور النسبي الذي قابلوا به ممارسات إسرائيلية، مثل اقتحام المسجد الأقصى وضم الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح إلى الآثار اليهودية. وكانت خلاصة ما خرجوا به من المقارنة أن "الرأي العام المصري استولت عليه كرة القدم، وغيرها من المعارك الصغيرة وأنه لم يعد يكترث كثيرًا لا بالقضية الفلسطينية ولا بالمقدسات الإسلامية"

غير أن إطلاق الحكم السابق على الشعب المصري لا يخلو من بعض التعسف. ذلك أنه في اليوم الذي نشرت فيه أخبار اقتحام المسجد الأقصى، تحدثت الصحف المستقلة في مصر عن مظاهرات في جامعات القاهرة والأزهر والزقازيق احتجاجا على اقتحام المسجد. وكانت بعض الهتافات واللافتات تحمل النقد نفسه الذي نتحدث عنه، فقد ظل طلاب الأزهر يرددون: "ماتش كورة حرَّك دولة والأقصى بعناه مقاولة"


وما إن أطلق الحكم صافرته، معلنًا انتهاء المباراة النهائية في كأس الأمم الإفريقية في أنغولا بفوز مصر على غانا بهدف مقابل لا شيء، حتى تغيرت كيمياء معظم المصريين وتبدلت أحوالهم، من "هم" و"غم" و"كوارث طبيعية ومصنوعة"، ليخرج الناس في فرق وجماعات، سيرًا على الأرض أو قفزًا فوق السيارات، يتشحون بـالأعلام أو يحملونها أو يلوحون بها، نساء تزغرد وفتيات ترقص، وشباب يصفق ويطلق الألعاب النارية، وأطفال يهتفون باسم "مصر" ومرور يتوقف وشوارع "تُغلق" و"سهر وسمر وطبل وزمر وتبادل للتهاني"

وكأن حصول مصر على كأس الأمم الإفريقية ثلاث مرات متتالية وسبع مرات متقطعة وخوضها تسع عشرة مباراة بلا هزيمة ليسا إنجازًا رياضيًا كرويًا فقط، وإنما حدث قومي وانتصار بطولي تاريخي وانتفاضة شعبية اندلعت على يد "المعلم" حسن شحاتة وفرقته. وكأن أكثر من عشرين لاعبًا فقط بيدهم إسعاد الناس وشقاؤهم، فرحهم وغمهم، إذا أدوا أداء كرويًا جيدًا وكسبوا مباراة مهمة أو بطولة خرج الناس من بيوتهم مستبشرين متهللين، وإذا حدث العكس بقوا رهائن محابسهم حزنًا وكمدًا، وكأن الناس لم تعد تأكل أو تشرب أو تتنفس إلا بكرة القدم


وبعد حصول مصر على كأس الأمم الإفريقية في عام 2008 اندلع إضراب عمال المحلة، وسقط من سقط واعتقل من اعتقل، وارتفعت أسعار الوقود، لكن الناس في مصر انشغلوا عن كل ذلك بقضية هروب عصام الحضري من النادي الأهلي وتعاقده مع نادي "سيون" السويسري، لتصبح هذه القضية الشغل الشاغل لهم. وفي بداية 2010 وقعت أحداث نجع حمادي الدامية، وانهمرت السيول فوق بعض المحافظات المصرية، ونجمت عنها مآس وكوارث. وبدلا من التكاتف للبحث عن حلول لهذه الأزمات، تحوَّل كل الاهتمام للمباريات وفوز مصر الساحق على الجزائر ثم حصولها على كأس الأمم الإفريقية في أنغولا، وتحقيق النصر الذي لا نعرف غيره

بدا الإعصار الكروي الذي يجتاح كل شيء أمامه - بما في ذلك أشكال الشعور القومي الأخرى- لغزًا يحتاج إلى تفسير وفك طلاسم

gravatar

استاذ ياسر ثابت
لاتعليق عندى غير ان مدونتك ،يتضح منها جهدك التوثيقى ،وكلماتك السلسه ،واخراجك الرائع وجهد مشكور

gravatar

سهيل ولي الدين علام


شكرا لك يا عزيزي. كلامك يسعدني، كما يشرفني تلك المتابعة من صديق نابه مثلك


لك كل المدة والتقدير

gravatar

فعلا فعلا
استولت السياسة على الكرة وحولتها لخدمتها بل انتزعتها انتزاعا
وحولتها من مجرد رياضة او ترفيه للناس الى ستار لتمرير ما يريدونه او للتغطية على فسادهم والتقرب الى العامة بالكرة
معك فى ان هذا اتضح جليا فى العقد الاخير
واذا كان القلة غير ذلك لكن الاكثرية يغطون عليهم ويضيعوهم فى الزحام فلا يميزهم احد
مقال جميل يا دكتور
لكنى اعتقد ان الشعب المصرى لن يفيق من كابوس الكرة
كنت كتبت عن كرة القدم من ناحية اخرى ولم انشره ...ربما انشره

gravatar

شمس العصاري

هذا الخلط الغريب بين الكرة والسياسة واستخدام الكرة كوسيلة إلهاء، أدى إلى اختلاط المفاهيم حتى أصبحت انتصارات الكرة نصرا للسياسة وحكمة القيادة السياسية

في انتظار نشرك ما كتبته عن كرة القدم

gravatar
Anonymous في 2:11 AM

حتى في الكوارث العامة التي شهدتها مصر، كان لكرة القدم دور بارز وتأثير واضح
***
لن ننسى منظر السيدة الأولى و هي ترفرف بالعلم بعد فوزنا بينما لم يتم الوصول لباقي الجثث في العبارة
في مثل هذه الأمور أقله تعلن حالة الحداد للكارثة القومية و لا يشارك الرئيس على الأقل في الاحتفال
***
ألي هذا هو البروتوكولالمعمول به في كل بلاد العالم؟

gravatar

Sonnet

إن كانت القيادة السياسية قد احتفلت بالفوز الكروي ونسيت ضحايا العبَّارة، فماذا نقول عن مئات الألوف من المصريين ممن نسوا الكارثة وتغافلوا عن أحزان الوطن، وخرجوا يهتفون ويطبلون ويزمرون

ليتهم خرجوا ولو مرة واحدة بكل هذه الحشود ليقولوا: لا لقانون الطوارىء، لا للتعذيب، نعم للحقوق والحريات العامة والسياسية

لكنهم خرجوا فقط للاحتفال بالفوز الكروي

أعتقد أن الخطأ يقع على عاتق كثيرين، ربما أكثر من الدولة نفسها

مودتي

gravatar

بعد الإطلاع على المستندات المرفقة مع ملف القضية
وبعد معاينة تاريخ اللعبة

أصدرنا نحن حكمنا بمكافأة كرة القدم
حيث أنها نجحت على كافة الأصعدة

ساعدت(الناس اللي فوق) على إلهائنا نحن (الناس اللي تحت) بشدة
كما ساعدتنا نحن على مقاومة الإكتئاب ونسيان الظلم (والقرف) في ليالٍ عدة

gravatar

د. ياسر عمر عبد الفتاح

نعم، نجحت كرة القدم في لعبة الإلهاء، وأصبحت سبيل كثيرين للشعور بالفرح والإحساس بالانتصارات، في زمن عزت فيه الأفراح وندرت الانتصارات

المشكلة فقط تكمن في ثمن الإلهاء الذي ندفعه، حتى دون أن ندري

gravatar

منذ أعوام طويلة وأنا لا أجد فى كرة القدم إلا ما أجده فى حلبات المصارعة الرومانية القديمة والتى كان الأباطرة يقيمونها كى يشغلوا شعوبهم عنما يحد حولهم
وما هتاف الجماهير إلا هتاف جمهير الأرينا المتعطشين للدماء كى يفرغوا فيه ما بداخلهم
ثم يعود كل منهم لبيته كى ينام وكأن شيئا فى العالم لا يعبر تفكيره ولو للحظة

تحياتى دوما وأبدا

gravatar

الأزهري

جزء مهم من اللعبة هو التنفيس عن الغضب وربما الإحباط، وتأكيد روح الانتماء لفئة ما أو جماعة معينة

ولذا نجد في اللعبة نوعا من القتالية، والمنافسة بأسلوب المعارك.. سواء بفدائية قد تصل إلى حد الخشونة

gravatar
Anonymous في 3:02 AM

Dr Yasser
مع تحياتي لحضرتك اسمح لي بمتابعة التعليق:
اتفق مع حضرتك أن الشعب أيضا يلام على ذلك ؛ لكونه إما مغيب أو غير مهتم.
لقد خرج الناس في مباراة اعتقد أهلي و زمالك في نفس يوم النطق بالحكم المخفف. و كان الانتقاد أكثر حدة للناس التي خرجت تشاهد المباراة و لم تشعر بأخوانهم. بينما لم يتحدث الكثير من الصحافيين ليلقوا اللوم على الأسرة بما لا يتوافق مع القواعد و البروتوكولات أثناء الكوارث القومية.
**********
نتذكر معا أول زلزال بأكتوبر
في بداية التسعينات تأثر الكثير لكن ليس الكل و لم يساعد الجميع بالرغم من أن الكارثة كانت فادحة. اتذكر صديقة كانت مهمومة بالامر و ارتدت لونا داكنا او أسودا فسألتها زميلتها لماذا هل لك أحد مات في الزلزال؟ لم يكن لها قريب متوف لكنها ارتدت السواد؛ كونهم شركاء في المصرية إن صح التعبير.
تغيير النفوس و العقول يحتاج لفترة من الزمن ليشاركوا في الأزمات.

gravatar

Sonnet

صحيح تماما أننا شركاء في الجريمة؛ لأن السلبية نوع من التواطوء الذي لا يمكن تبريره بالمبررات والذرائع المعروفة عن العجز واستحالة التغيير

الأوطان لا تتقدم إلا بشعوب تعرف حقوقها وتحميها بكل قوة،وتحافظ على آليات المساءلة والرقابة لتحقيق النزاهة والشفافية والديمقراطية

ومن تلك الشعوب فقط، يخرج الحكم الرشيد

gravatar

سلسلة شيقة وجيدة لانها تعرض المعلومة وتحللها بدقة وموضوعية مع عقد المقارنات بين احوال العامة للدولة والكرة من ناحية وماتأثير ذلك على الشعب المغيب وكانه تناول مخدر جماعى..مايحدث فى مصر يجرى مثله فى باقى الدول العربية، وكأن الحكام العرب يغطون على فشلهم بخلق اوهام لشعوبهم مستغلين كل ماهو متوفر من وسائل آلهاء وتخدير وتسكين للآلم....لك تقديرى دائما د.ياسر ..

gravatar

Αρετή Κυρηνεία

شكرا لك يا إيناس، سعيد بتقديرك لهذه السلسلة

نعم، كلنا في "الكرة" شرق

نقع دائما في فخ خطأ الإلهاء، ونشجع بتعصب أعمى، وننسى في ظل هذا كله قضايا رئيسية أهم من اللعبة

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator