المحروسة

gravatar

الصورة..إن حكت (1): إثم اللون



الصورة:
أمريكي من أصل إفريقي يشربُ الماءَ من صنبورٍ يخص "الملونين"، بموجبِ سياسةِ الفصلِ العنصري في ولاية كارولينا الشمالية عام 1950

تصوير: إليوت إرويت

Photographer: Elliott Erwitt


الماءُ دوماً عَصيٌ على القراءة
وحين نكرهُ، تكونُ للماء ذاكرةُ الغدر، لا ذاكرة الارتواء
كيف ينبجسُ الماء وتُولَدُ الخضرة في مكانٍ ينضحُ بالكراهية؟
كيف تشربُ وتشربُ، ولا ترتوي
تشربُ ولا تشربُ.. كأن الماءَ داخلَك

نحن يا صاحبي نشربُ الماء نفسَه ونَطأُ الأرضَ نفسَها، لكنكَ لا تراني مِثلكَ، ربما لأنكَ أصبحت إلهَ نفسِك..فأنت كل شيء ولا شيء
وحين يعكرُ الماءَ جلادون متعاقبون، تدورُ رأسك بخمرِ الثورة
وكلمةُ الثورةِ إما أن تصبح إلهاماً أو يكون مصيرُها سلةُ المهملات

التاريخُ يُخرِج من داخلِنا بشراً لا نعرفُهم
والماءُ يحاصرُ ذاكرةَ مَن تشتعلُ الحرائقُ في أوردَتِهم منذ لحظةِ الميلاد

في تلك الأيامِ المغطاةِ بالصمت، كان العطشُ عاهتَنا المستديمة
لم يكن الماءُ قادراً على إزاحةِ الحزنِ عن الوجوه، ولا سدِ الثقوبِ العميقة في الروحِ المتصدعة
يقولُ لكَ "الآخر" بلهجةٍ آمرة: ستكونُ عبداً لسيدٍ، وإن كان ذليلاً
ثم يهوي بسوطِ الإكراه أو صوتِ العنصرية، حتى يختلطَ الكلامُ بالأنين

في المدارسِ التي رجموها ونبذوا طلبتها إلى منفى التقسيم العرقي، ثمة شهقةٌ تتسللُ في قصبةِ الروحِ النافرةِ من العصب
في الركنِ القصي من الحافلاتِ، كنا نصطادُ موتَنا المؤجل، ونداوي همومَنا بهمومِنا
دواؤنا دموعُنا..هي الماءُ الوحيدُ الصادقُ الذي نعرفه
صارَ البكاءُ علامةَ موتِنا ونحنُ أحياء
وحدَه الحزنُ كان يلفُ الناسَ بعباءتِه الفضفاضة

نرتشفُ ثلاثَ رشفات
مرة احتجاجاً على "إثم" اللون، ومرة تصالحاً مع كوابيسَ تدورُ في رؤوسِنا مثلَ ساقيةِ الخزي التي رُبِطنا إليها، ومرة حسرةً على أخٍ احتالت عليه الحماقةُ..فأطاعها

الماءُ الذي يخدعُ الأرضَ ويراوغُ الزهرة، يتسربُ الآن إلى حلقي الظامىء الذي غيبَت العنصريةُ عنه حاسةَ التذوق
كأن حواسَكَ لا تعرفُ بعضَها البعض.. حديقة حواسِك بلا ماء
وحدَها الحريةُ تروي العطش

أنا ابنُ الجنوبِ وموسيقى البلوز، أسافرُ بالماءِ حامِلاً ضلوعي باقَةَ جمرٍ تَتَمارى فِيَّ الأكُفُّ
سُعالي الحادُ صارَ نصلاً راحَ يحزُ رقبتي ليلاً، مثلَ طيورٍ تربكُ نعاسَ الأشجار
اللونان الأبيضُ والأسودُ سيدا المشهدِ والمكان
وأنت تدعوني: الملوَن
دعني أسألُك: هل الأبيضُ لون؟ هل الأسودُ لون؟ أم أن التقاءهما يصنعُ ذلك الخليط الخائف والخائب الذي نسميه الرمادي

إن شئتَ، سأحدثكَ قليلاً عن طائر الكاردينال، رمز الولاية، الذي يتباهى ذكوره بقناعٍ أسودَ على الوجهِ لاجتذابِ إناثه..وإن شئتَ، سأترككَ تفكرُ لم استغنى طائرُ الكاردينال عن اللونِ الأبيض في جسدِه البهي

لم أفهمْ يوماً، كيف يكون اللونُ خطيئة، ويصبحُ الأسودُ مرادفاً للجُرمِ والاستهجان: فاسدٌ، فاسقٌ، أثيمٌ، مرعبٌ، شرير
لماذا يخترعُ البعضُ عبادةَ البياض؟
"الأبيض" يريدُ أن يسودَ، لكن كيف تستأثرُ بالمكانِ ما دمتَ ستنتهي مدفوناً تحت أرضِه؟
تلك إذاً خرائبُ الأمكنة، التي تنمو فوقها المباني كنباتٍ وحشي
كلُ ضحيةٍ تمشي مع ظلالِها على تلك الطرقاتِ البعيدة، أو تنزوي بين جنباتِ بقع الظلمة التي تشبهُ الظلم
أما الخوفُ، فينامُ في العيونِ التي تعبت من الصلاةِ طمعاً في الطمأنينة

ها أنا أشربُ الماء، فالأرضُ يجب أن نشربَ منها، حتى تصيرَ منا
ها أنا أشربُ كي أحيا، لكن الذلَ مميت
والرجلُ في الحي الذي تفوحُ منه رائحةُ الفقر، يكدُ ويشقى ويمتصُ الهوانَ كإسفنجة، حتى يسقطَ في الحقل أو يتمددَ فوق سريرٍ باردٍ في الغرفةِ الرطبةِ مثل لوحِ الخشب
وفي الخارجِ، نارُ الحقيقةِ تضطرمُ

لا بد أنكَ تعرفُ أننا نصيرُ جميعاً لوناً واحداً حين نختفي خلفَ قناعِ الموت
والموتُ ليس كافياً للنسيان
ونحن أمواتٌ يَحيونَ بلا مقابِــرَ ولا تعاويذَ

أيها الجلادُ، كم يشبهُ صفيرُ الأغنيةِ التي تدندنُ بها، صفيرَ الريحِ خلفَ نوافذِ بيوتِنا المتداعيةِ التي هدَها التعبُ
الفرقُ الوحيد هو أنه ليس للخوفِ نوافذ. الخوفُ هو المخدِّرُ الذي يَسكنُ في تقويسة عينيك
أريدُ أن أنامَ، لأصبحَ في الأحلامِ حراً
ولكن حين ترفعُ جبلاً طوالَ الليل..كيف تسمي ذلك نوماً؟

وأنتَ..في أي هاويةٍ تنام؟

زهرةُ جسدي، أقطفُها كلَ صباح وألقيها في الشارعِ ليطأها مغرورون، ومُغرمون بوهمِ التفوقِ والهيمنة
في كلِ خطوةٍ أنفضُ عن صدري زهرةً مفتَّتة الأوراق ونُدْبة
كأني محبوسٌ في تلك الزاويةِ من الشهيقِ والزفير فقط، وأتحركُ في مساحةٍ لا تتجاوزُ بصمةَ يدي

في الليالي العاصفةِ قبعتي تطيرُ ببطء، تحييّ السماء، تحلّقُ في الريح باتجاه مدينة ولمنغتون
ربما رأسي العاريةُ تثيرُ إعجابَ الغيوم
لكنني في الوطنِ الجديدِ أجهشُ دوماً بالاغتراب
موقعي في مكانٍ ما، بين الوجودِ والعدم، أي ما بينَ وهمين

قبضةُ اللونِ كانت تجعلُ الرجلَ منا يقفزُ فوق حريته كأنها بركةُ ماءٍ يخافُ من الغرقِ فيها
كم يَسعُ الجسدُ البشريُ خوفاً لا حد له
هل تريدُ أن آخذكَ إلى/ على الماء؟
لعلكَ تدركُ يوماً أنه لا يُوجَدُ في أعماقِنا غير الماءِ، نُولَدُ من الماءِ، ونذهبُ إلى الماءِ، وحين يجفُ ماؤنا نموت


صنبورُ الماءِ واطىء في منتصفِ المسافةِ بين الأرضِ وقامتي.. حتى حين أشربُ تجبرُني على الانحناء!
هذا الماءُ المجروحُ يصيرُ في فمي بطعمِ الدمِ اللزجِ لأسلافٍ ماتوا تحتَ التعذيب وبُتِرَت أطرافهم كي لا يهربوا من جحيمِ الرق
دم، يترك أثرَه في الرملِ مثل أفعى علَمتَها غريزةُ البقاء أن تمحوَ بصمتَها على الأرض
كأن الطمأنينةَ زائرٌ على سفر


نساؤنا في المدينةِ الكبيرة، تشارلوت، تزوجهُن الفقرُ كرهاً وضاجعهن غصباً، فالسيدُ يطمعُ في بطونهن المدورةِ ذاتِ الثنياتِ الوفيرة، ويستهلكُ مثلَ المناديلِ الورقيةِ ذواتِ الفمِ الشهواني الغليظِ والابتسامةِ البُنيةِ البَرية

ذبابُك ينهشُ لحمي الطري، وأنا أحني رأسي للماء..وبياضِك الذي يستميتُ كي يبدو شاهقاً

النهارُ الحارُ يمارسُ سطوتَه في الخارجِ، والماءُ فضةٌ بلونِ الرماد
أُفرِغُ في جَوفي حممَ الأيامِ، لكنَ الماءَ فاترٌ، مثل نظرةِ شرطي لمن هم مثلي

القهرُ ذئبٌ، لا يقتله سوى صياد الوقتِ
يا إلهي: ما أعرفُ.. يُقوِضُ ما أريدُ

أيها الأخُ الضحية: كأن طينَك لم يفترْ منذ الحرقِ الأول. تدخلُ في احتجاجٍ، وتبدأ عصياناً.. ثم تعتصم، قبل أن يُخمِدَ الجلادُ نارَ غضبكَ
يبدو أننا كلما تألمنا أكثر طالبنا أكثر. الاحتجاجُ علامةٌ على أن الإنسانَ خرجَ للتو من قرارةِ جحيم
"القليلُ من الشفقة"، يقولُ أحدُهم
لكننا لا نستجدي الشفقة.. إنها أسوأُ إحساسٍ يشعرُ به فردٌ، يُلصِقون به صفةَ الجنسِ الأدنى مثل طابعٍ بريدي قديم

جرثومةُ العنصريةِ تتكاثرُ على الخارطةِ كالفطرياتِ.. من غرينزبورو إلى دورام، ومن فييتفيل إلى ونستون سيلم

هل قلتُ لكَ إنني قرأتُ يوماً أن الإنسانَ كائنٌ يفرزُ الكارثة؟
شخصياً، أعرفُ أن كلَ كائنٍ تسكنه عقدةُ التفوقِ هو نشيدٌ مُدمِر
كتبُ التاريخ والفلسفةِ التي تنامُ على أرففٍ متهالكةٍ في غرفتي المتواضعة، علَمتني أن كلَ شعبِ، في مرحلةٍ من مراحلِ تطورِه، يذهبُ به الظنُ إلى أنه شعبٌ مختار. عندئذ يعطي أفضلَ وأسوأ ما فيه

لعلك تظنُ أن ماءكَ ليس كأي ماء.. حسنٌ، ماؤك لا يشبهه أي ماء..فهو دمٌ ينز من خاصرتي التي طعنتَها بسكين حقوقي المهدرة
هل تريدُ أن تشربَ من "صنبورك" ماء بارداً؟
تفضل..هذا الماءُ وديعتي في زهرةِ فمكَ
لكن عليكَ أن تتذكرَ جيداً: ينتهي الحبُ بنقطةِ دمعٍ، وتبدأ الكراهيةُ بنقطةِ دمعٍ

تطالعُني بدهشةٍ وأنا أشربُ الماء.. لا تقلق، لن أشربَ أكثرَ من حاجتي وأوامرِكَ
تمتلىء زهرةُ الحريةُ بالماءِ الرقراق، حتى إنني رأيتُ بعضَه يلمعُ، ويسيلُ من زاويةِ فمي اليسرى
رويداً رويداً، سأشربُ، ليستحيلُ الألم أملاً..لن أذوبَ مثلَ قطعةِ سكر في فنجانِ قهوتِكَ الصباحية
لن أختفي..عساني يوماً أكونُ هنا في مركزِ الحياة

تسألُني، لماذا اعتبرُ كارولينا الشمالية وأخواتِها كعكةً عملاقةً مسمومة
إليكَ الإجابةُ: لأن التفرقةَ فيها وصلت إلى رشفةِ الماء
لأن في قلبِ أحدِنا لا تزالُ متوهّجةً جمرةُ الكراهية
لأن الألمَ سيخرجُ يوماً كما يفوحُ الحريقُ من فوهةِ مدخنة

gravatar

دكتور ياسر

بوست رائع

كعادتك جائما

تحياتى لقلمك

gravatar

shasha

شكراً لك يا سيدتي

أدام الله السعادة في أيامك كلها

gravatar
Anonymous في 10:11 PM

من وحي صورة تكتب عن أولئك الذين قهرتهم العنصرية لسنوات حتي صارت وصمة لن تمحوها كل إعلانات حقوق الإنسان
ومن وحي كتاباتك أري كل المضطهدين في الأرض لفقر أو لدين أو لعرق

دمت بكل خير

gravatar

Basma

تلك الذاكرة مليئة بالندوب

الفصل العنصري الذي عاشته وعانت منه دول بينها الولايات المتحدة، كان وصمة عار بمعنى الكلمة

الصورة رغم بساطتها تشير إلى التفرقة حتى في شرب الماء وهو موقف مؤذ ومؤسف

شكراً لتقديرك واهتمامك

gravatar

سيدى تعجز كلماتى عن وصف براعتك فى المساك بلجام حصان الكلمات وترويضه
دمت سيدى عنوانا لكل الذين يدافعون ضد قهر العنصرية
وخاصة ان اسوأ ما نراه من الوان العنصرية هو الاسوأ على الاطلاق فهنا نرى عنصرية لا تعتمد على اللون او الدين او العرق ولكن تعتمد عل من يسيطر فهو الاعلى والباقى محض هراء
هم الاقوى ولذلك يجب ان نضرب بالاحذية ونحن صامتون
نحن حتى لا نعامل معاملة الدجاج حين يذبح فيملأ الارض خبا ولكن نحن يجب ان نذبح فى صمت وبدون كلام حتى لا نعكر صفو حفلاتهم
وشكرا لك ثانية سيدى

gravatar

الأزهري


سلمت يا عزيزي

العنصرية كريهة الشكل واللون والرائحة
فرائحة العنصرية البغيضة تزكم الأنوف مثلما شكلها يعمي القلوب عن مبدأ المساواة دون تفرقة بين البشر..كل البشر

gravatar

دكتورى العزيز
لعل كلماتك تذكر الجيل الجديد
بأن أمريكا قائده العالم الجديد دوله نشأتها عنصريه فقد نشأت بإباده الهنود الحمر ثم بإستعباد الأفارقه حتى وقت قريب الى الستينات من القرن الماضى
واسرائيل نسخه من أمريكا فقد قدم اليها من كل بقاع الأرض اناسا لينشئوا بلدا على أنقاض شعب فلسطين وإقامه دوله عنصريه
تحياتى لقلمك المبدع

gravatar

أبو أحمد


التاريخ الذي تسرب من ذاكرة كثيرين قد يدفع البعض إلى النسيان.. من المهم أن نستفيد من دروس الماضي كي لا تتكرر المآسي..ويتكرر العار الإنساني

والفصل العنصري والتفرقة على أسس عنصرية أو دينية أو عرقية..من أخطر الامراض التي تصيب الأمم والشعوب

ومن يتأمل الصصورة يا د. مجدي سيكتشف مدى بشاعة ما كان قبل نحو نصف قرن من الزمان

طيب الله أيامك كلها

gravatar
Anonymous في 2:41 AM

The mixed blood, the divided soul, the ghostly image of the tragic mulatto trapped between two world.

We will need to remind ourselves, despite all our difference, just how much we share: common hopes,common dreams, a bond that will not break.

Dreams from my Father

By Barack Obama

gravatar

Lady


ليت رسالة التسامح والمساواة ونبذ التفرقة التي يدعو إليها المرشح الديمقراطي لاتتخابات الرئاسة الأمريكية باراك أوباما تلقى آذاناً صاغية وقلوباً واعية


وكما يقولون: العبرة دائماً بالتطبيق

gravatar

أسوأ أنواع التعذيب مورست في أميركا بحالات التمييز العنصري
وفي بعض الولايات لا تزال تمارس
كل مرة بشوف أفلام حول التمييز العنصري خاصةً يلي بتمس بلون البشرة بحس بدناءة البشر
كيف منحاسب إنسان على لون بشرة ربنا منحو ياها لسبب معين
ومين قال إنو الأبيض أحلى من البني
عقول مريضة يلي بتميييز البشر على أساس اللون

gravatar

Khawwta

وحدها النفوس المريضة يسيطر عليها وهم التفوق، فتمارس التمييز على أساس عرقي أو عنصري أو ديني

من هنا تولد الكراهية..وتبدأ الحروب التي لا نهاية لها ولا طائل من ورائها

gravatar
Anonymous في 9:44 AM

مقالاتك البحثية المهمة عن زواج الفنانات ورجال الأعمال منقولة في جريدة الدستور عدد اليوم الأربعاء 24 سبتمبر
:)

gravatar

Anonymous

أشكرك على اهتمامك

تم عمل اللازم لمواجهة هذا التصرف المعيب

  • Edit
  • إشهار غوغل

    اشترك في نشرتنا البريدية

    eXTReMe Tracker
       
    Locations of visitors to this page

    تابعني على تويتر

    Blogarama - The Blog Directory

    قوالب بلوجر للمدونين

    قوالب بلوجر للمدونين

    تعليقات فيسبوكية

    iopBlogs.com, The World's Blog Aggregator