بنك الكونت دي ملوي
في عام 1932 انشغل الشارع المصري بفضيحة الكونت دي ملوي
ولعل البداية تكون مع اسم البنك
وحين سئل "الدكتور" حسين شريف عن رأس المال قال إن المبلغ الذي دفع منه هو ستة آلاف جنيه فقط، والباقي موزعٌ على أسهم سوف تطرح في السوق. ألحت عليه النيابة قائلة: أرنا إذاً المبلغ الذي تتحدث عنه
ولم يظهر حسين شريف مبلغ ستة آلاف جنيه لأحد؛ لأن المبلغ لا وجود له، ولأنه - كما تقول "المصور"- اعتبر كفاءته الشخصية تساوي هذا المبلغ وتزيد
وفي ظل المعلومات المتوافرة، اعتُقِلَ حسين شريف وأودِعَ السجن وشرعت النيابة في التحقيق
دلف محرر مجلة "المصور" إلى هؤلاء المجتمعين فإذا بأحدهم بائع سجاد تركي يقسم له أن السجاجيد التي باعها للبنك ليست ملكه هو بل كانت مودعة عنده لحساب تاجر سجاد يدعى همام، وها هي قد ضاعت. وهذا أحد الذين تقدموا للبنك ليعمل كاتباً فدفع مبلغاً على سبيل التأمين، وقد ضاع هذا التأمين. وذلك هو صانع الزجاج الذي لم يتقاض أجره، ومثله النجار الذي قام بأعمال النجارة في مقر البنك.. إلخ
أقبل وكيل النيابة وتبعه الكاتب والحاجب، ثم لحق بهم محرر المجلة الذي يروي للقراء كيف يجد زائر المقر أول ما يجد بضع درجاتٍ تفضي إلى الردهة التي أعدت للمتعاملين، وفيها ذلك الحاجز النحاسي الأصفر الأنيق وقد علقت عليه بطاقاتٌ نحاسية لأقسام التحويل والحسابات التجارية وغيرها. وخلف هذا الحاجز مكاتب الموظفين الذين يتولون هذا الأعمال. وإلى يسار الداخل بضع غرفٍ، منها واحدة كبرى أعدت لمداولات أعضاء مجلس الإدارة، وقد أقيمت فيها طاولة كبيرة وزينت بأجمل زينة وعلقت على أحد جدرانها صورة زيتية بالحجم الطبيعي للملك فؤاد الأول
وفي الجناح الأيسر غرفة المدير..غرفة فخمة علقت على جدارها الأيسر شهادة الدكتوراه في الحقوق الممنوحة إلى حسين شريف، وقد ختمت هذه الشهادة بخاتم القنصلية المصرية في روما عام 1925
وعلى مكتب المدير دواةٌ فخمة لا يقل ثمنها في ذلك الزمن عن عشرة جنيهات، وفي مواجهته خزينة كبرى. أما سائر الجدران فقد زينت بخزائن الكتب، التي تتنوع ما بين القانون والتجارة ولوائح المعاملات وأعمال البنوك
وتصف لنا المجلة في تقريرها - الذي أعادت نشره دورية "أيام مصرية" في عددها الصادر في مايو آيار 2001- السراديب التي أعدها المدير لحفظ خزائن البنك والودائع والنقود، فتقول إن تلك السراديب طويلة ملتوية تفضي في أحيانٍ إلى غرفٍ صماء أعدت في أبوابها الزوايا الحديدية استعداداً لتركيب أبواب ضخمة من الفولاذ يحتمي خلفها رأسمال البنك العتيد!
الطريف أن العاملين في البنك دفعوا مبالغ إلى مديره مقابل تعيينهم في تلك الوظائف، بدءاً من السعاة ووصولاً إلى الصرافين، بل إن موظفي البنك جميعاً من الأجانب دفع بعضهم مبالغ مالية ليكونوا مساهمين في البنك قبل تعيينهم بين موظفيه. وأراد أحد الأجانب أن يعمل في وظيفة صراف ثانٍ في البنك فطلب منه المدير مبلغ 300 جنيه. بهرت مظاهر البنك الرجل فجاء يحمل المبلغ ووقف يرقب الإذن بالدخول على المدير ليؤدي الأمانة وتسلم أمر التعيين، وإذا برجال الشرطة يداهمون مقر البنك
أما الخزائن الحديدية التي يبلغ ثمنها زهاء 300 جنيه، ومطبوعات البنك التي زادت قيمتها على 200 جنيه، وماكينات الطباعة والمكاتب والأثاث، والأدوات الكهربائية والسجاجيد الجميلة والساعات الأنيقة.. فلم يدفع المدير من ثمنها شيئاً اللهم إلا مبالغ يسيرة للغاية لا تٌقاس بثمن ما حمله التجار والصناع إلى دار البنك
وأما خزينة المدير فكان فيها مبلغ 140 جنيهاً هي بقية ال 250 جنيهاً التي دفعها أحد صرافي البنك قبل أن ينال أمر التعيين. وأما سائر الخزائن الفخمة الكبيرة فكانت خاوية على عروشها
ومن العجيب أن بعض الصور، ومنها صورة جميلة لإسماعيل صدقي باشا (رئيس الوزراء) معلقة في مكتب المهندس الفني، مستعارة من بعض محال المصورين، وكذلك الدواة الفخمة التي تزين مكتب المدير. وحين فتش رجال الشرطة منزل الدكتور حسين شريف - مع زوجته الفرنسية- الكائن في 18 شارع فؤاد الأول، لم يجدوا فيه أثراً للنقود
ولكن، من هو حسين شريف مدير البنك المصري العام؟
لم يكن المذكور سوى موظف في البنك الزراعي المصري قبل نحو ربع قرنٍ من ذلك التاريخ، رسم لنفسه صورة الموظف الذي يتسم بالاستقامة والنشاط. نال حسين ثقة رؤسائه فقدموا إليه مرة مبلغ ألفي جنيه يؤديها في مأمورية مصلحية، فما كاد المبلغ يصل إلى يديه حتى اختلسه ثم هرب بعدها إلى فرنسا
أقام الرجل في فرنسا، فلم يعد حسين أفندي شرف الموظف البسيط في البنك الزراعي، بل عاش حياة رغدة وأطلق على نفسه اسم "الدكتور حسين شريف..كونت دي ملوي"!
وملوي، لمن لا يعرفها، هي إحدى مراكز محافظة المنيا، وهي واحدة من أهم مدن الصعيد، ويتبعها ما يزيد على 70 قرية، كما أنها ذات كثافة سكانية كبيرة، وبها نشاطٌ تجاري واسع ومعالم أثرية معروفة، وخصوصاً في قرية الأشمونين
اتصل الكونت الزائف بالأوساط الفرنسية الرفيعة الجاه فكسب ثقتها ونقودها، وتمكن بكياسته ولباقته من أن يربح أموالاً غير يسيرة من بيوت مال فرنسية كثيرة بمختلف الوسائل
ضاقت إدارة الأمن العام الفرنسية ذرعاً بالكونت دي ملوي الذي انهالت عليه الشكاوى من هنا وهناك. وتحرت بعض هذه الشكاوى فإذا بها تلقي ضوءاً على حياة الكونت، وهمّت الشرطة الفرنسية بإلقاء القبض عليه.. لكنه اختفى كأنه فص ملح وذاب!
لم يقف رجال البوليس على أثر للكونت المنشود، واستمر ذلك حتى هبط روما فتى من ذوي الثراء من أبناء العائلات المصرية الكبيرة، ينثر النقود هنا وهناك بغير حساب
رغب حسين في العودة إلى مصر وملءُ يديه شهادة علمية جليلة، فاحتال حتى استطاع دخول امتحان الدكتوراه في الحقوق أمام جامعة روما، من دون أن يكون حاصلاً على شهادة الليسانس من قبل، كما تقضي الأصول، وأعد له البعض الرسالة التي يؤديها أمام الممتحنين، ولقنوه كيف يجيب
حمل حسين شريف الدكتوراه في جيبه وعاد إلى مصر، فقيد اسمه في جدول المحامين لدى المحاكم المختلطة، وافتتح مكتباً فخماً في شارع المغربي بالعاصمة، وأطلق السماسرة في أنحاء القاهرة والريف بحثاً عن زبائن لهم وزنهم وثقلهم
واتخذ الدكتور حسين شريف المحامي لدى المحاكم المختلطة مظهراً من الوجاهة والأناقة يدعو إلى الانبهار، وملأ مكتبه بالموظفين والخدم الأجانب والمصريين، وأكثر من شراء السيارات الفخمة
ولكن ما لبثت الظرف أن كشفت حقيقته، فأقيمت بحقه شكوى وأخرى، وحقق رئيس المحكمة المختلطة نفسه في الشكوى التي تقدمت ضد المحامي تتهمه بأنه يحمل شهادات زائفة
وعقد مجلس تأديب المحامين، فقرر شطب اسم حسين شريف من جدول المحامين، وكتب إلى النائب العمومي للمحاكم الأهلية خطاباً جاء فيه: "بناء على طلب النيابة العمومية المختلطة رقم 4374 المؤرخ 27 يونيو سنة 1929 م أتشرف بأن أرسل إلى سعادتكم "مع هذا لاتخاذ اللازم" صورة من الحكم الصادر في 17 الجاري من الجمعية العمومية لمحكمة استئناف الإسكندرية المختلطة المشكلة بهيئة مجلس تأديب، وهو يقضي بمحو اسم حسين شريف المحامي تحت التمرين من جدول المحامين، وأرى من الواجب لفت نظركم إلى أنه لا يزال ثابتاً في عقيدة الهيئة المشكل منها مجلس التأديب بأن المدعو حسين شريف هذا هو الشخص الذي حكم عليه يوم 16 يناير سنة 1906 م من محكمة ههيا الأهلية بالسجن ستة أشهر لاختلاسه مبلغاً يزيد على ألفي جنيه من البنك الزراعي المصري
"وإني أزيد على ما تقدم أنه بناءً على طلبي من إدارة الأمن العام بباريس بشأن هذا المحامي قد وافتني الإدارة ببياناتٍ من الغرابة بمكان، إذ يتضح من كتاب بعثت به إليّ ومرفقة صورته بهذا أن توالت عليها الشكاوى ضد حسين شريف لنصبٍ أتاه ولخيانة أمانةٍ ارتكبها، وتفضلوا.. إلخ"
الطريف أنه قبل اعتقاله، تمكن حسين شريف من إبرام صفقةٍ بمبلغ 30 ألف جنيه لبناء عمارةٍ كبيرة لأحد الوجهاء بواسطة أحد المقاولين المعروفين
بنك خاوٍ من المال، وجرائم نصب واحتيال، وهاربٌ سابق بالمال العام ينجح في العودة بذمته الخربة إلى الأضواء.. كم يكرر التاريخ نفسه، لكن قلائل يستوعبون الدرس
كم يكرر التاريخ نفسه، لكن قلائل يستوعبون الدرس
ذكرتنى بمقولة
تعلمنا من التاريخ ان الناس لا تتعلم من التاريخ
هذا بالطبع اذا كانوا يقرأونه أو يعرفونه
تحياتى دوما
الأزهري
على أي حال، ما يهمنا هو أن نوقد شمعة، وأن نستعيد ذاكرتنا الضائعة.. لعل وعسى!
أستاذ ياسر .
أنا واحد من اكثر المهتمين بما تكتبه صراحه , وأود ان اشكرك على هذا المدونه الرائعه التي تكشف لنا فيها خبايا ودهاليز السياسه , بارك الله فيك وإلى الأمام ياروميل
ملحوظه انا فعلا معجب بتعليقك على كتاب حرب شارلي ويلسون, وإظهارك للفساد الي كان موجود منذ البدايه , وما نراه اليوم هو قمه جبل الثلج فقط, أرجو لك مزيدا من التوفيق
أحمد المصري
متابعتك لما أكتبه أمرٌ يشرفني ويسعدني
الكتابة جسر، نلتقي فوقه ونتواصل عبره، حتى نتبادل المعرفة ونتقاسم الرأي، فلا شكر على واجب يا صديقي
"حرب تشارلي ويلسون" كشف جزءاً من المستور، من تاريخنا الضائع. ولهذا حرصت على إلقاء الضوء على محتويات هذا الكتاب
مودتي الخالصة
العزيز ياسر / تحياتى لك
تدوينة رائعة كالمعتاد
معلومات جديدة بالنسبة لى , وان كانت الاحداث تاريخية الا انها تثبت ان موضوع النصب الجماهيرى كانت له بوادر قديمة جدا . يعنى الامر غير مقتصر على تجربة الريان وصحبة الخير المعروفة فى الثمانيات .
احترامى ومودتى لك
وحيد جهنم
وحيد جهنم
أشكرك على كلماتك الطيبة
النصب له تاريخ عريق، وما قصة "الكونت دي ملوي" سوى نموذج للنصب في مطلع القرن الماضي
قراءة فاحصة لتاريخ حسين شريف، تجعلنا نلاحظ مدى التشابه بينه بين نموذج في عصرنا الحالي..وما أكثرها!
دكتور ياسر
اسمح لى ان اشكرك و ابعث اليك بخالص تقديرى و عرفانى بالجميل ....لما
تقدمه من مادة تاريخية محترمة
لك ان تعرف انى انتظر ما تكتب (خصوصا
الموضوعات التاريخية) بفارغ الصبر...
شىء اخر ..اعتقد انك تستحق ان ترفع لك القبعة عليه...الا وهو الصور المرفقة مع المواضيع التاريخية تحديدا....كم تمنيت ان اعرف كيف تصل و تحصل على هذه المادة المصورة ....دكتور ياسر....خالص تحياتى
نبيل صالح
نبيل صالح
رسالة مثل رسالتك تجعل ما أكتبه أمراً له فائدة. الشكر إذاً واجب لك ولكل قارىء يرهق نفسه بقراءة ما أكتبه
ياسيدي، كل ما في الأمر هو أني أحترم عقول أصدقائي القراء، وأحاول معهم أن نعيد قراءة حكايات تاريخنا، حتى نفهم ملامح الحاضر ونتحرك بوعي واستنارة من أجل مستقبل أفضل
أما الصور، فإن اعتنائي بها يدفعني أحياناً إلى نقل بعض الصور عن المجلات والدوريات والكتب القديمة عن طريق المسح الضوئي
أشكرك على المتابعة
Post a Comment